الدرس 127 _ المقصد الأول في الاوامر 59
وهذا بخلاف القضية الحقيقية؛ فإنّه لا دخل للعلم فيها أصلاً؛ باعتبار أنّ الموضوع فيها هو العنوان الكلّي، والحكم مترتب على ذلك العنوان الجامع، ولا دخل لعلم الآمر بتحقق العنوان وعدم تحققه، بل المدار على تحقق العنوان في الخارج؛ مثلاً الموضوع في قولهL: « وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً ﴾( ) هو المستطيع، فإن كان زيد مستطيعاً وجب عليه الحج، ولو فرض أنّ الآمر لم يعلم باستطاعته، بل حتى لو حصل عنده علم بعدم استطاعته؛ كما لو فرض أنّ الآمر من أهل العرف؛ حيث يمكن في حقّه الجهل بالواقع. كما أنّه لو لم يكن مستطيعاً لا يجب عليه الحج، ولو فرض أنّ الآمر عالم بكونه مستطيعاً.
إذا عرفت ذلك نقول: إنّ الأحكام الشرعية لم ترد على نحو القضايا الخارجية وإلا لكانت الآيات الشريفة إخبار عن إنشاءات لاحقة؛ بحيث يكون لكلّ فرد من أفراد المكلفين إنشاء يخصّه عند وجوده، وهو واضح البطلان. وإنّما وردت على نحو القضايا الحقيقية؛ حيث ينشئها الشارع على إثر فرض موضوعها. وعليه، فلا يشترط علم الآمر بالموضوع والقيودات والشرائط.
وبالتالي، فإرجاع صاحب الكفاية شرائط الحكم إلى اللحاظ والوجود العلمي في غير محلّه، كما عرفت.
المحاولة الثانية:
ذهب جماعة من الأعلام منهم السيد الخوئي R إلى إمكان الشرط المتأخر ثبوتاً؛ ذلك أنّ الأحكام الشرعية ليست أموراً حقيقية حتى يقال باستحالة تأخر شروطها عنها؛ لاستحالة تأثير المعدوم في الموجود، وليست شروطها أسباباً حقيقية مؤثرة فيها، وإنّما هي أمور اعتبارية، فهي بيد المعتبِر يجعل شرطها مقارناً لها أو متقدماً أو متأخراً.
وبعبارة أخرى: إنّ الأحكام الشرعية بشتّى أنواعها أمور اعتبارية، فلا واقع موضوعي لها ما عدا اعتبار من بيده الاعتبار، ولا صلة لها بالموجودات المتأصّلة الخارجية. ويترتب على ذلك أنّ موضوعات الأحكام الشرعية، وإن كانت من الأمور التكوينية، إلا أنّه لا تأثير لها فيها أبداً، لا تأثير العلة في المعلول، ولا الشرط في المشروط، ولا السبب في المسبب، وإن أطلق عليها الشرط مرّة، والسبب مرّة أخرى، إلا أنّ ذلك مجرّد اصطلاح من الأصحاب على تسمية الموضوعات في الأحكام التكليفية بالشروط، وفي الأحكام الوضعية بالأسباب مع عدم واقع موضوعي لها، فيقولون: إنّ البلوغ شرط لوجوب الصلاة، والبيع سبب للملكية، ولم يظهر لنا وجه للتفرقة بين تسمية الأولى بالشروط والثانية بالأسباب.
ثمّ إنّ فعلية الأحكام وإن كانت دائرة مدار فعلية موضوعاتها بتمام قيودها وشرائطها في الخارج، إلا أنّه لا يلزم من ذلك تقارنهما؛ إذ كيفية الجعل والاعتبار تختلف؛ فكما يمكن للشارع جعل حكم على موضوع مقيّد بقيد فرض وجوده مقارناً لفعلية الحكم، يمكن له جعل حكم على موضوع مقيّد بقيد فرض وجوده متقدماً على فعلية الحكم مرة، ومتأخراً عنها مرة أخرى؛ باعتبار أنّ الحكم الشرعي بيد المولى، فله اعتباره كيف شاء وأراد.
ويؤيّد السيد ما ذهب إليه بمثل دخول الحمام؛ فإنّ الرضا بدخوله حاصل قبل دفع الأجرة رغم أنّه مشروط بدفعها، وهو متأخر.
وفيه: صحيح أنّ الأحكام الشرعية أمور اعتبارية؛ إلا أنّها ليست مجرد لقلقة لسان، بل لها واقع، وواقعها اعتبارها؛ فالشارع أوقف الوجوب الفعلي للحج مثلاً على الوجود الفعلي لبالغ عاقل مستطيع صحيح البدن مخلّى السرب، فلا يمكن بعد ذلك أن يكون الحكم فعلياً قبل فعلية موضوعه المتمثل بهذه الأمور بتمامها، وإلا يلزم خلاف ما فرضه؛ إذ بعد فرض اعتبار شيء موضوعاً للحكم، لا يمكن أن يتخلف ويتقدم ذلك الحكم على موضوعه.
أمّا مثال فعلية الرضا بدخول الحمام رغم توقّفه على شرط دفع الأجرة وهو متأخر.
فجوابه: أنّه لا يخلو الحال، فإمّا أنّ الرضا فعلي قبل الدفع، وهذا معناه أنّ رضاه مطلق وغير مشروط بالدفع، وإمّا أنّ الرضا غير فعلي، فلا يكون الدفع شرطاً متأخراً له.
المحاولة الثالثة:
ذهب جماعة من الأعلام منهم الآغا ضياء الدين العراقي إلى إمكان الشرط المتأخر؛ لأنّ المستحيل هو تأخّر الجزء المؤثر من العلة والذي يترشّح عنه الأثر، وهو المقتضي، أمّا الشرط وكذا عدم المانع فليسا مؤثّرين، ولا يترشّح عنهما الأثر، وإنّما يشكلان مصحِّحين لقابلية المقتضي في التأثير، وبالتالي لا ضير من تأخرهما.
وحاصل هذا الكلام: هو ما عرفت من أنّ المقتضي هو ما يلزم من وجوده الوجود دائماً وذاتاً، والشرط ما يلزم من عدمه العدم، والمانع ما يلزم من وجوده العدم، وهذا التعبير يقتضي اختلاف المقتضي مع الشرط والمانع في كيفية الدخل في وجود المعلول وتحققه وعدم كون الجميع على وزانٍ واحد في ذلك، وأنّ مناط دخل كل منها غير ما هو المناط في الآخر، وإلا لما كان وجه للعدول في الشرط والمانع عن التعريف المزبور للمقتضي.
وعليه، فإنّ ملاك المقدمية في المقتضي عبارة عن حيثية المؤثّرية؛ إذ هو في الحقيقة عبارة عن معطي الوجود؛ لأنّه هو الذي يخرج المعلول منه ويستند إليه في وجوده؛ كما في مثل النار والإحراق؛ حيث يرى أنّ الإحراق يتولّد من النار خاصة، وهذا بخلافه في مثل الشرط والمانع؛ فإنّ دخولهما فيه لا يكون على نحو دخل المقتضي في كونه بنحو المؤثرية والمتأثرية، بل دخل عدم المانع إنّما يكون في قابلية المعلول والأثر للتحقق وإيجاده من قبل موجده على معنى دخله في تحدّد الطبيعة بحدّ خاص، يكون بذلك الحدّ قابلاً للتحقق؛ بحيث لولا ذلك الحد الخاص الناشئ من إضافة الطبيعة إلى العدم، لما كان قابلاً للتحقق من قبل موجده ومؤثّره. ومن المعلوم كفاية هذا المقدار من الدخل في مقدّمية عدم المانع بنظر العقل للمطلوب.
ومن هذا البيان ظهر أيضاً وجه دخل الشرائط، وأنّه لا يكون دخلها إلا كدخل عدم المانع في كونه من قبيل دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباري الراجع إلى دخلها في قابلية الأثر للتحقق باعتبار كونها ممّا تقوم به الحدود الخاصة التي بها يكون الأثر قابلاً للتحقق، لا بدونها.
وعليه، فبهذا البيان يظهر لك اندفاع الإشكال المعروف في الشرائط المتأخّرة، وعدم لزوم انخرام قاعدة عقلية من لزوم تحقق المعلول قبل وجود علته؛ إذ نقول بأنّ ذلك إنّما يرد إذا كان دخل الشرائط أيضاً كالمقتضي بنحو المؤثرية، وإلا فبناءً على ما قرّرناه من كون دخلها من باب دخل منشأ الاعتبار في الأمر الاعتباري، لا يكاد مجال للإشكال المزبور؛ حيث أمكن تصوير الشرطية للوجودات المتأخرة بعين تصويرها للوجودات المقارنة والمتقدّمة؛ إذ حينئذٍ كما يمكن أن يكون الشيء بوجوده المقارن محدّداً للماهية بحد خاص تكون بذلك الحد قابلة للتحقق عند وجود مقتضيها، كذلك يمكن ذلك في الوجود السابق المعدوم حال وجود الأثر، وفي الوجود المتأخر، فيمكن أن يكون الشيء بوجوده السابق المعدوم حين الأثر دخيلاً في قابلية الأثر للتحقق بإمكان أن يكون الشيء بوجوده المتأخر دخيلاً في القابلية المزبورة.
وفيه: صحيح أنّ الشرط غير مؤثّر، ولكنّه مصحِّح للتأثير؛ إذ لولاه لما أثّر المقتضي في المقتضى؛ حتى الشرط الشرعي، فإنّه كما تقدم ليس لقلقة لسان، وإنّما الشارع نفسه قد أوقف فعلية الحكم على فعليته. وعليه، فملاك الاستحالة كل ما له دخالة في حصول الأثر؛ فإنّ كل ما كان كذلك يستحيل تأخره عن الأثر، وهو الحكم؛ إذ لا يعقل تقدّم الحكم عليه بعد فرض أخذه موضوعاً؛ للزوم الخلف، وإنّ ما فرض موضوعاً لم يكن موضوعاً.