الدرس 1153 _كتاب الخمس 33
الصُّورة الرِّابعة وهي أن يكون قدر الحرام، وصاحبه كلاهما معلومين :
فالمعروف بين الأعلام أنَّه يجب دفعه إليه كغيره من الشُّركاء؛ لأنَّ الغير شريكٌ في العين بنسبة ماله.
وعليه، فلابدّ من الدَّفع إليه، وفي الجواهر: (من غير إشكال بل ولا خلاف...)([1]).
هذا كلُّه إذا كان صاحبه معلوماً بعينه.
وأمَّا لو علمه في عدد محصور، فقد ذكر جماعة من الأعلام، ومنهم صاحب المدارك (رحمه اﷲ): أنَّه (وجب التخلص من الجميع بالصُّلح...)([2]).
وقال صاحب العروة (رحمه اﷲ): (ففي وجوب التّخلُّص من الجميع، ولو بإرضائهم بأيِّ وجهٍ كان، أو وجوب إجراء حكم مجهول المالك عليه، أو استخراج المالك بالقُرعة، أو توزيع ذلك المقدار عليهم بالسَّوية، وجوه، أقواها الأخير...)([3]).
أقول: أمَّا إجراء حكم مجهول المالك عليه، فهو ضعيف جدّاً؛ لأنَّ مورد ذلك هو المالك المجهول المطلق، أو المعروف الَّذي لا يمكن إيصال المال إليه.
وأمَّا مع معرفته في عدد محصور، وإمكان إيصال المال إليه، فلا معنى حينئذٍ لإجراء حكم مجهول المالك عليه، وكيف يصحّ التّصرُّف في مال الغير من دون إذنه بالتّصدُّق عنه، أو كيف يُدفع للحاكم الشَّرعيّ؟! إذ لا ولاية له على المال مع وجود صاحب الحقّ في عدد محصور.
وأمَّا ما اختاره صاحب العروة (رحمه اﷲ)، وجماعة من الأعلام، من توزيع ذلك المقدار عليهم بالسَّويّة، فلا دليل عليه إلاَّ قاعدة العدل والإنصاف.
ولكنَّك عرفت سابقاً أنَّه لا يُوجد في هذه القاعدة شيءٌ حسنٌ إلاَّ اسمها؛ إذ لا دليل عليها، بحيث تصبح قاعدةً عامةً، وإنَّما يُعمل بها في موردَيْن ذكرناهما سابقاً، وذلك للنَّصّ الخاصّ.
المورد الأوَّل: ما لوِ استودع زيد مثلاً رجلاً دينارَيْن، واستودعه آخر ديناراً، فضاع دينارٌ منهما، فقد ذكر الإمام (عليه السلام) أنَّه يُعطى صاحب الدِّينارَيْن ديناراً، ويُقسَّم الآخر بينهما نصفَيْن.
والمورد الثَّاني: فيما لوِ تداعى شخصان في دابة أو بعير، وأقام كلٌّ منهم بيّنةً على مدَّعاه، ولم تكن العين في يد أحدهما، وحلف كلٌّ منهما عليها، فتكون حينئذٍ بينهما بالمناصفة.
وأمَّا في غير هذَيْن الموردَيْن فلا تجري.
وأمَّا القول: باستخراج المالك بالقُرعة، ففي غير محلِّه أيضاً؛ لأنَّها لكلِّ أمرٍ مشكل، وهنا لا يُوجد إشكال.
وتوضيحه: أنّنا ذكرنا في أكثر من مناسبة وبالأخصّ في علم الأصول أنَّ مورد القُرعة الشُّبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ الَّذي لا يمكن الاحتياط فيه.
وهنا يمكن الاحتياط بإرضاء المالك المعلوم، ولا تجري القُرعة في الشُّبهات الحكميّة قطعاً، سواء البدويّة منها أو المقرونة بالعلم
الإجماليّ، كما أنَّها لا تجري في الشُّبهات الموضوعيّة البدويّة بالاتِّفاق.
وعليه، فموردها الشُّبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ الَّذي لا يمكن فيه الاحتياط إلاَّ في بعض الموارد للنَّصّ الخاصّ.
وعليه، فيتعيَّن الاحتمال الأوَّل الَّذي ذكره صاحب العروة (رحمه اﷲ)، وهو وجوب التّخلُّص من الجميع ولو بإرضائهم بأيِّ وجهٍ كان، وقدِ اختار هذا القول جماعة من الأعلام.
والسِّرّ فيه: أنَّ ذمَّة المالك اشتغلت بالضَّمان؛ لقاعدة اليد: (على اليد ما أخذت حتى تؤدِّيه)، فمقتضى هذه القاعدة وجوب إيصال مقدار الحرام إلى صاحبه، ولا يحصل الجزم به إلاَّ بدفع مثله إلى كلِّ واحدٍ منهم.
إن قلت: إنَّ دفع مثله إلى كلِّ واحدٍ منهم فيه ضررٌ عظيمٌ على المالك، وهو منفيٌّ بقاعدة نفي الضَّرر.
وعليه، فلا يمكن الاحتياط، فيتعيّن الذَّهاب إلى القُرعة؛ لأنَّ موردها الشُّبهة الموضوعيّة المقرونة بالعلم الإجماليّ مع عدم إمكان الاحتياط.
وهنا عندنا شبهة موضوعيّة مقرونة بالعلم الإجماليّ؛ لاشتباه صاحب المال بين عدد محصور، ولا يمكن الاحتياط؛ لأنَّ فيه ضرراً عظيماً على المالك.
قلتُ: إنَّ المنفيّ بقاعدة (لا ضرر) هو خصوص الضَّرر الآتي من
قِبل الحكم الشَّرعيّ، بمعنى أنَّ الشَّارع المقدَّس لم يُشرِّع حكماً يلزم منه ضررٌ على أحد، تكليفياً كان أو وضعيّاً.
وفي مقامنا هذا، الواجب على المالك هو إيصال المال الحرام إلى صاحبه؛ لقاعدة اليد، وهذا الحكم في نفسه لا ضرر فيه حتَّى ينفيه الشَّارع، وإنَّما حصل الضَّرر من أمر خارجيّ، وهو إحراز الامتثال، فإنَّ إحراز الامتثال متوقِّف على دفع مثله إلى كلِّ واحدٍ منهم.
وبعبارة أُخرى: إحراز الامتثال متوقِّفٌ على الاحتياط بدفع مثله إلى كلٍّ منهم، فمنشأ الضَّرر هو الاحتياط الَّذي حكم به العقل بسبب تنجيز العلم الإجماليّ، وليس منشأ الضَّرر جعل الحكم وتشريعه، واﷲ العالم بحقائق أحكامه.
([1]) الجواهر: ج16، ص73.
([2]) المدارك: ج5، ص388.
([3]) العروة: ج4، ص260.