الدرس 1152 _كتاب الخمس 32
ثمَّ إنَّه قد يُناقش في الرِّوايات المتقدِّمة المستدلّ بها على وجوب التّصدُّق بالمال المجهول مالكه: بأنَّ موردها المال المتميّز، فإلحاق المال المختلط به قياس.
قال صاحب الحدائق (رحمه اﷲ): (ولقائل أن يقول: إنَّ مورد تلك الأخبار الدَّالّة على التّصدُّق إنَّما هو المال المتميّز في حدِّ ذاته لمالك مفقود الخبر، وإلحاق المال المشترك به مع كونه ممّا لا دليل عليه، قياسٌ مع الفارق، لأنَّه لا يخفى أنَّ الاشتراك في هذا المال سارٍ في كلِّ درهمٍ درهمٍ، وجزءٍ جزءٍ منه، فعزل هذا القدر المعلوم للمالك المجهول مع كون الشَّركة شائعةً في أجزائه، كما أنَّها شائعةٌ في أجزاء الباقي، لا يُوجب استحقاق المالك المجهول له حتَّى أنَّه يتصدَّق به عنه، فهذا العزل لا ثمرة له، بل الاشتراك باقٍ مثله قبل العزل.
فإن قيل: إنَّه متى كان المال مشتركاً بين شريكَيْن فإنَّ لهما قسمته، ويزول الاشتراك بالقِسمة وتمييز حصّة كلٍّ منهما عن الآخر.
قلنا: إنَّما صحَّت القسمة في الصُّورة المذكورة وذاك الاشتراك من حيث حصول التَّراضي من الطَّرفَيْن على ما يستحقّه أحدهما في مال
شريكه بما يستحقّه الآخر في حصّته، كما صرح به الأصحاب، فهو في قوة الصُّلح، بل هو صلح مُوجب لنقل حصَّة كلٍّ منهما للآخر، وهذا غير ممكن في ما نحن فيه، فقياس أحدهما على الآخر مع الفارق، كما لا يخفى)([1]).
ويرد عليه: أوَّلاً: أنَّ ورود تلك الرِّوايات في المال المتميّز لا يُنافي دلالتها على حُكم ذلك المال من حيث هو، فإنَّ خصوصيّة كونه متميّزاً ليست إلاَّ كسائر الخصوصيّات الَّتي لا مدخليّة لها في الحكم.
ثمَّ إنَّ مورد بعض الرِّوايات الدَّالّة على التّصدُّق هو المال المختلط أو الأعمّ من المتميّز والمختلط، كرواية عليّ بن أبي حمزة المتقدِّمة، فإنَّ موردها هو المال المختلط، فإنَّه من البعيد جدّاً تميُّز مال مَنْ يعرف منهم عن مال مَنْ لا يعرفه، لاسيّما أنَّ العادة قاضيةٌ بأنَّ مثل هذا الشَّخص الَّذي وردت الرِّواية فيه لو لم يكن أصابه مالٌ حلالٌ خلطه بغيره في تلك المدَّة، فلا أقلّ مِنْ خلط بعض ما اكتسبه من الحرام ببعض، بحيث لم يبقَ أعيان أموال مَنْ يعرفه منهم متميّزة عمَّا لا يعرف صاحبه.
ولكنَّ الَّذي يُهوِّن الخطب: أنَّ الرِّواية ضعيفة، كما عرفت.
وثانياً: لو سلَّمنا بأنَّ روايات التّصدُّق لا تشمل صورة الاختلاط، ولكنَّ روايات الخُمُس أيضاً لا تشمل مثل هذا الفرض، فإنَّ صورة
العلم بمقدار الحرام تفصيلاً خارجةٌ حتماً عن تلك الرِّوايات، فكيف يمكن إيجاب الخُمُس فيما لو كان الحرام المختلط أقلّ قليل، كما لو كان الحرام عشرة دراهم، والمال الحلال عشرون ألف درهم إلاَّ عشرة، فهل يُعقل إيجاب الخُمُس، بأن يدفع أربعة آلاف درهم لأصحاب الخُمُس، مع أنَّ الحرام هو عشرة دراهم فقط؟!
وهكذا الحال في العكس، فإنَّه لو كان عشرة دراهم، والمال الحرام عشرون ألف إلاَّ عشرة، فهل يُعقل أن يُكتفى بالخُمُس، ويُؤخذ الباقي مع العلم أنَّها مال حرام؟!
هذا، وقد ذكر بعض الأعلام أنَّ رواية عمَّار بن مروان المتقدِّمة شاملةٌ لمعلوم القدر، وقد دلَّت على وجوب الخُمُس.
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة، كما عرفت.
وثانياً: أنَّها لا إطلاق لها من هذه الجهة، فهي دالَّة على ثبوت الخُمُس في الحلال المختلط بالحرام على سبيل الإجمال، والقدر المتيقَّن من موردها صورة الجهل بمقدار الحرام.
والخلاصة: أنَّه لو سلَّمنا بأنّ روايات التّصدُّق المتقدِّمة لا تشمل صورة المختلط بالحرام، فروايات الخُمُس أيضاً لا تشمله قطعاً.
وعليه، فيرجع في حكم صورة الاختلاط إلى الأصل، وهو حرمة التّصرُّف في مال الغير دون رضاه، ولكن له تخليص ماله بالقسمة برفع أمره إلى الحاكم الشَّرعيّ إن كان، وإلاَّ فعدول المؤمنين، وإن تعذَّر يتولاَّه بنفسه؛ لقاعدة نفي الضَّرر.
وبالجملة، إنَّ إبقاء المال المختلط بلا قسمة مانعٌ من التّصرُّف في ماله، وهو ضرر منفيٌّ في الشَّريعة، فله أن يرفع أمره إلى الحاكم الشَّرعيّ، ومطالبته بالتَّقسيم، وتعيين المال المجهول صاحبه، ثمَّ الفحص عن صاحبه، فإن وجده، فهو، وإلاَّ فيندرج في موضوع روايات التّصدُّق.
وأمَّا القول الثَّالث وهو وجوب إخراج الخُمُس، ثمَّ الصَّدقة بالزَّائد في صورة الزِّيادة، والذي عرفت سابقاً أنَّه لم يُعرف قائله : فليس تامّاً أبداً؛ لأنَّه إمَّا أن تتناوله روايات التّصدُّق ولو بتنقيح المناط، أو روايات الخُمُس كذلك، أو لا يتناوله شيء منهما، فيُرجع في حكمه إلى الأصل.
وعلى أيِ حالٍ، فلا معنى لهذا التَّفصيل.
والخلاصة في نهاية المطاف: أنَّ ما ذهب إليه المشهور من وجوب التّصدُّق هو الصَّحيح، واﷲ العالم.
هذا كلُّه إذا كان مقدار الحرام معلوماً بالتَّفصيل.
وأمَّا لو كان مقدار الحرام مجهولاً تفصيلاً، ولكنَّه يُعلم إجمالاً بأنَّه أقلّ من الخُمُس أو أكثر، فسيأتي الكلام عنه إن شاء اﷲ تعالى عند قول المصنف (رحمه اﷲ): (ولو علم زيادته على الخُمُس....).
([1]) الحدائق: ج12، ص335.