الدرس 194_في المناهي وهي على أقسام ثلاثة (26).ثالثها: ما نهي عنه تنزيها
الدرس 194 / الثلاثاء: 14-أيلول-2021
ومنها: رواية يونس «قال: تفسير قول النّبيّ (صلّى الله عليه وآله): «لا يبيعن حاضر لباد»: أنَّ الفواكه وجميع أصناف الغلاَّت إذا حُمِلتْ من القرى إلى السُّوق فلا يجوز أن يبيع أهل السُّوق لهم من النَّاس، ينبغي أن يبيعه حاملوه من القرى والسَّواد، فأمَّا مَنْ يحمل من مدينةٍ إلى مدينةٍ فإنَّه يجوز، ويجري مجرى التِّجارة»[1]f340.
وفيه أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بجهالة إسماعيل بن مرَّار.
وثانياً: أنَّ ظاهر الرِّواية أنَّ هذا الكلام من يونس لا من الإمام (عليه السلام)، فلا عبرة بها.
وقدِ استدلَّ من طرق العامَّة بما روي عن ابن عبَّاس: «نهى النَّبيُّ (صلّى الله عليه وآله) أن يتلقَّى الرُّكبان، وأن يبيع حاضراً لبادٍ، قال قلت لابن عباس: ما قوله: حاضرا لباد؟ قال: ألاَّ يكون له سمساراً»[2]f341، وهي ضعيفة جدّاً.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنَّ الروايات الواردة في المقام كلُّها ضعيفة السَّند.
وعليه، فالقول: بالحرمة، في غاية البُعْد، وإن كان ظاهر النّهي هو التّحريم، بل حتّى القول بالكراهة يحتاج إلى دليل.
اللَّهمَّ إلاَّ أن يقال: بالتّسامح في أدلّة السُّنن، والمكروهات.
ولكنَّك عرفت أنَّ هذه القاعدة غير ثابتة عندنا.
ومن هنا، فإنَّ مقتضى الإنصاف: عدم ثبوت الكراهة أيضاً، إلاَّ إذا كان هناك تسالم بينهم.
ثمَّ إننا لو قطعنا النَّظر عن ضعف السَّند، وقلنا: بالحرمة أو الكراهة، فقد ذكر الأعلام أنَّه يشترط في الحرمة أو الكراهة جملة من الشَّروط:
منها: أن يكون الحاضر عالماً بورود النَّهي.
ومنها: أن يظهر لذلك المتاع سعر في البلد، فلو لم يظهر إمَّا لكبر البلد، أو لعموم وجوده، ورخص السِّعر، فلا تحريم ولا كراهة؛ لأنَّ مقتضي النهي هو تفويت الرَّبح، وعدم الرفق بالناس، وهو هنا مفقود.
ومنها: أن يكون المتاع المجلوب ممَّا تعمّ الحاجة إليه، فما لا يحتاج إليه إلاّ نادراً لا يدخل تحت النَّهي.
ومنها: أن يعرض الحضري ذلك على البدوي، ويدعوه إليه، فلو التمس الغريب ذلك لم يكن به بأس.
ومنها: أن يكون الغريب جاهلاً بسعر البلد، فلو كان عالماً به لم يكره، بل تكون مساعدته محض الخير.
أقول بعد قطع النَّظر عن ضعف السَّند : أنَّه لا دليل على هذه الشّروط، حتى الشَّرط الأوَّل؛ إذ الأحكام الشرعيَّة غير مشروطة بالعلم بها، فالكراهة أو الحرمة تثبت مع الجهل بالحكم.
نعم، لا إثم على القول: بالحرمة، إذا كان قاصراً لا مقصِّراً.
نعم، الشَّرط الأخير قد يفهم من الرِّوايات؛ لأنَّ التَّعليل بقوله (صلّى الله عليه وآله): «يرزق الله تعالى النَّاس بعضهم من بعض»، إنَّما يترتَّب على الجهل بسعر البلد، لا في حال العلم.
وبالجملة، فإنَّ النهي مطلق يشمل مطلق الإرشاد إلى البيع، ولا يختصّ بالتَّوكيل، ويشمل مطلق من كان عالماً بالسِّعر من أيِّ محلٍّ كان، ولا يختصّ بخصوص الحاضر، كما أنَّه يشمل العالم بالحكم والجاهل به، كما أنَّه مطلق من حيث عموم الحاجة إلى المتاع وعدمه.
ثمَّ إنَّ المصنِّف (رحمه الله) ذكر أنَّه لا خلاف في جواز السَّمسرة في الأمتعة المجلوبة من بلد إلى بلد؛ وذلك لأنَّ الكلام في المجلوبة من القرى والبادية، دون البلد، فإنَّ بيع الحضري منها جائز مطلقاً؛ وذلك لاختصاص روايات المنع بغير البلد، وأكثر الرِّوايات، وإن اختصَّت بالبدوي، ولكن في رواية يونس ذِكْر القرى، وهذا كافٍ للتعدِّي إلى القروي، مع قطع النَّظر عن ضعف السَّند.
وأمَّا مع أخذ ضعف السَّند بعين الاعتبار، فإنَّه يمكن القول بالتَّعدِّي إلى البلد إذا نظرنا إلى التَّعليل في الرِّوايات، كما قال المحقِّق الثَّاني (رحمه الله).
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: فرع:
الأقرب تعدِّي النَّهي إلى بيع البلدي للقروي؛ للمشاركة في العلَّة المومأ إليها. (انتهى كلامه)
(1) فإنَّ النَّهي الوارد في الرِّوايات، وإن كان مختصّاً بأنَّه لا يبيع حاضر لبادٍ، إلاَّ أنَّه نظراً إلى التَّعليل «والمسلمون يرزق الله بعضهم من بعض»، لا يبعد التعدِّي إلى بيع البلدي للقروي.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وإنما يكون ذلك مع جهل البدوي والقروي بالسعر، (انتهى كلامه)
(2) قد عرفت أنَّ هذا الشَّرط يفهم من التَّعليل المذكور في الرِّوايات.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولو اشترى لهما، فالأقرب الكراهة. (انتهى كلامه)
(3) ذكر جماعة من الأعلام أنَّه لا كراهة في شراء الحاضر للبادي؛ لأنَّ الرِّوايات مختصَّة بالبيع، وفي المقابل ذهبت جماعة أخرى إلى الكراهة، وذلك لعموم التَّعليل، وهو الأقرب، بناء على صحَّة الرِّوايات.
ثمَّ إنه بقي شيء في المقام، وحاصله: أنَّه على القول بالحرمة، هل يبطل البيع أم لا؟
والمعروف بينهم أنَّه لا يبطل بل المعاملة صحيحة، وهو مقتضى الإنصاف؛ لأنَّ النَّهي عن المعاملات لا يقتضي الفساد؛ خلافاً للنَّراقي في مستنده، حيث ذهب إلى البطلان، وهو غير جيِّد، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ومنَ المكروه الصَّرف، (انتهى كلامه)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه يكره للإنسان أن يكون صيرفيّاً والصَّراف هو الَّذي يبدِّل نقداً بنقد .
وقدِ استدلَّ الأعلام على ذلك بجملة من الرِّوايات:
منها: رواية إسحاق بن عمار المتقدِّمة «قَاْل: دخلتُ على أبي عبد الله (عليه السلام) فخبَّرته أنَّه ولد لي غلام، قال: أَلَا سمَّيته محمَّداً؟ قلتُ: قد فعلتُ، قال: فلا تضرب محمَّداً، ولا تشتمه، جعله الله قرَّة عين لك في حياتك، وخلف صِدْق بعدك، قلتُ: جعلت فداك، في أي الأعمال أضعه؟ قال: إذا عدلته (عزلته) عن خمسة أشياء فضعه حيث شئت: لا تسلِّمه صيرفيّاً فإنَّ الصَّيرفي لا يسلم من الرِّبا...»[3]f342. وهي ضعيفة بعدم وثاقة جعفر بن يحيى الخزاعي وأبيه. وكذا غيرها من الروايات الضعيفة.
ومن هنا تعلم أن الكراهة غير ثابتة.