الدرس 154_التكسّب الحرام وأقسامه (149). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 154 / الثلاثاء: 16-آذار-2021
الأمر السَّادس: المشهور بين الأعلام أنَّ الإكراه إنَّما يتحقَّق بالتَّوعُّد بالضَّرر على تَرْك المكرَه عليه، ضرراً متعلِّقا بنفسه أو ماله أو عرضه أو بأهله، كالأب والأمِّ والولد، ممَّن يكون ضرره راجعاً إلى تضرُّره وتألُّمه، على وجه لا يتحمَّل عادةً.
وأمَّا إذا لم يترتَّب على تَرْك المكرَه عليه إلاَّ الضَّرر على بعض المؤمنين ممَّن يعدُّ أجنبيّاً عن المُكرَه بالفتح ، فالظَّاهر أنَّه لا يعدُّ ذلك إكراها عرفاً وإن كان يصدق عليه ذلك لغةً إذ لا خوف يحمله على فِعْل ما أمره به.
ومنه يُعرَف أنَّ مجرد الخوف على النَّفس مثلاً لا ينفع في جواز ظُلْم الغير من دون إلزام وإكراه من أحد؛ ضرورة حرمة الضِّرار في الإسلام، وحرمة دفع الظُلْم عنك بظلم غيرك.
وكذا لو ألزمه الجائر بشيء مخصوص مِنَ المال منه أو من غيره ممَّن هو غير محصور، فإنَّه لم يلجئه إلى ظلم غيره ليكون مُكرَهاً بذلك.
وممَّا ذكرنا يتَّضح لك أيضاً عدم جواز ظُلْم الغير بأَمْر الجائر الذي يخشى مِنْ تخلُّفه أن يظلم البعض الآخر مِنَ المؤمنين، دون نفس المكرَه وماله وعرضه، ضرورة عدم مشروعيَّة دَفْع الظُّلم عن مؤمن بظلم مؤمن آخر؛ هذا كلُّه فيما يتعلَّق بالإكراه.
وأمَّا إذا أراد دفع الضَّرر عن نفسه من دون إكراه، فهل يجوز له دفعه ولو بالإضرار بالغير، فنقول: إن كان الضَّرر متعلِّقاً بنفسه، فيجوز له دَفْعه، ولو بالإضرار المالي بالغير.
نعم، يضمن له هذا المال لعدم الإكراه.
وأمَّا إذا توقَّف دَفْع الضَّرر عن نفسه بالإضرار بعِرْض الغير، فيجوز له أيضاً ذلك لترجيح النَّفس عليه؛ هذا كلُّه إذا كان الضَّرر متعلقاً بالنَّفس.
وأمَّا إذا كان الضَّرر متعلِّقاً بماله دون نفسه، فلا يجوز له دفعه بالإضرار بالغير أصلاً حتَّى في اليسير مِنَ المال، فإذا توقَّف دَفْع السَّبع عن فرسه بتعريض حمار غيره للافتراس، لم يجز له ذلك.
وأمَّا إذا كان الضَّرر متعلِّقاً بعرضه لا بنفسه ولا بماله، فهل يجوز له دفعه بالإضرار بالغير، سواء كان ذلك الإضرار بالغير بالمال أو العِرْض أو النَّفس، فهنا لا بدَّ مِنَ الرُّجوع إلى باب التَّزاحم واختيار ما هو الأهمّ، بل حتَّى في الصُّورتين الأوليين وهما فيما لو كان الضَّرر متعلِّقا بالنَّفس أو بالعِرْض فإنَّه يرجع إلى باب التَّزاحم، وإلى ترجيح الأهمّ ملاكاً، والله العالم.
الأمر السَّابع: هل يعتبر العجز عَنِ التَّفصي في الإكراه؟
يظهر من بعض الأعلام التَّفصيل بين الإكراه على الولاية، فلا يعتبر العجز عَنِ التَّفصّي، وبين الإكراه على غيرها مِنَ المحرَّمات فيعتبر فيه العجز عَنِ التَّفصّي.
وذهب المشهور إلى اعتبار العجز عَنِ التَّفصّي مطلقاً، ما لم يكن حرجيّاً، ولم يترتَّب عليه ضرر، كما أنَّ المشهور بينهم عدم اعتبار التَّفصِّي إذا كان حرجيّاً أو ضرريّاً.
أقول: يظهر مِنَ الأعلام أنَّه لا خلاف بينهم في اعتبار العجز عَنِ التَّفصِّي؛ لأنَّه مع إمكان التَّفصِّي لا يصدق الإكراه، ولم يفرِّقوا في ذلك بين الولاية المحرَّمة وبين العمل بما يأمره الجائر مِنَ الأعمال المحرَّمة المترتِّبة على الولاية.
وبالجملة، فيظهر مِنَ الأعلام في باب الإكراه عدم الخلاف في اعتبار العجز عن التَّفصِّي إذا لم يكن حرجيّاً، ولم يتوقَّف على ضرر، كما إذا أُكرِه على أَخْذ المال من مؤمن، فيُظهِر أنَّه أَخَذ المال، وجعله في بيت المال، مع عدم أَخْذه واقعاً؛ أو يأخذه جهراً، ثمَّ يردُّه إليه سِرّاً، كما كان يفعل ابن يقطين.
وكما إذا أمره بحَبْس مؤمن فيدخله في دار وسيعة من دون قيد ويُحسِن ضيافته، ويظهر أنَّه حَبَسه وشدَّد عليه، وكذا لا خلاف في أنَّه لا يعتبر العجز عَنِ التفصِّي إذا كان فيه ضرر كبير على المُكرَه بالفتح، وهذا هو مقتضى الإنصاف في المسألة، والله العالم.
الأمر الثَّامن: المعروف بين الأعلام هو جواز تحمُّل الضَّرر المالي في عدم قبول الولاية المحرَّمة، ولا يجب التَّحمُّل؛ لأنَّ حديث رفع الإكراه إنَّما يرفع حرمة القبول، وأمَّا وجوب التَّحمل فلا يستفاد من حديث رفع الإكراه.
وعليه، فلا دليل على وجوب التَّحمل بعد ارتفاع الحرمة، فيبقى الجواز، وهو الصَّحيح؛ لأنَّ النَّاس مسلَّطون على أموالهم، فيجوز له التَّحمُّل.
وهل يجوز له تحمُّل الضَّرر البدني في تَرْك الولاية؟
الإنصاف: أنَّه يجوز إذا كان الضَّرر يسيراً لا يَحْرُم ارتكابه، وأمَّا الضَّرر الكبير الذي يحرم ارتكابه، فلا يجوز تحمُّله، وكذا لو كان الضَّرر في عِرْضه، فإنَّه لا يجوز تحمُّله، والله العالم.
الأمر التَّاسع: المعروف بين الأعلام أنَّه لا يُبَاح بالإكراه قَتْل المؤمن، ولو توعَّده الجائر على تَرْكه بالقتل، والظَّاهر أنَّ هذه المسألة متسالم عليها.
هذا، وقد ذَكَر بعض الأعلام أنَّ مقتضى عموم نفي الإكراه والحرج هو الجواز، إلاَّ أننا منعنا مِنَ العمل بهما لأجل الرِّوايات الواردة في التَّقيَّة، فإنَّها وردت ليُحقَن بها الدِّماء، فإذا بلغتِ الدَّم فلا تقيَّة.
أقول: قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ حديث نفي الإكراه والضَّرر والحَرَج هو حديث امتنانيٌّ، فلا يجري إذا كان على خلاف الامتنان، كما هنا؛ إذ لا إشكال أنَّ الإضرار بالغير وقَتْل النَّفس المؤمنة منافٍ للامتنان.
نعم، قد يستدلُّ لعدم الجواز مضافاً إلى التسالم بين الأعلام بصحيحة محمَّد بن مسلم المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قَاْل: إنَّما جُعِلتِ التَّقيَّةُ لِيُحْقَنَ بها الدَّم، فإذا بَلَغ الدَّمَ فَلَيْسَ تقيَّةٌ»[1]f132.
وتدلُّ على ذلك أيضاً موثَّقة أبي حمزة الثّمالي المتقدِّمة أيضاً، حيث ورد فيها: «... إنَّما جُعِلتَ التَّقيَّة لِيُحْقَنَ بها الدَّم، فإِذَا بلغتِ التَّقيَّةُ الدَّمَ فَلَا تقيَّة...»[2]f133.
ثمَّ إنَّه لا فرق في المؤمن بين الصَّحيح والمريض، والشَّيخ والشَّاب، والرَّجل والمرأة، والعالم والجاهل، والحرِّ والعبد.
والمراد بعدم التَّقيَّة إذا بلغت الدَّم هو القتل.
وقيل: إنَّ ظاهر إطلاق الدم يشمل الجراح أيضاً، كما عَنِ الشَّيخ (رحمه الله).
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ المتبادر منه هو القتل، كما هو المعروف بين الأعلام.