الدرس 47 _ التكسّب الحرام وأقسامه (42). أحدها: ما حرم لعينه: سبّ المؤمن.
ومنها: صحيحة عَنْ عَبْدِ الرَّحْمنِ بْنِ الْحَجَّاجِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ مُوسى (عليه السَّلام): فِي رَجُلَيْنِ يَتَسَابَّانِ؟ قَالَ: الْبَادِي مِنْهُمَا أَظْلَمُ، وَوِزْرُهُ وَوِزْرُ صَاحِبِهِ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَعْتَذِرْ إِلَى الْمَظْلُومِ.[1] وفي رواية أخرى في الكافي -وهي حسنة بإبراهيم بن هاشم- مثلها، ولكن في ذيلها ما لم يتعدَّ المظلوم.
ويظهر من هاتين الرِّوايتين أنَّ الوِزْرَيْن ثابتان على البادِئ وليس على الرادّ وِزْر. غاية الأمر أنَّ الصَّحيحة تدلُّ على أنَّ البادئ إذا اعتذر من المظلوم فلا شيء عليه. وأمَّا الحسنة، فتدلُّ على أنَّ الوِزْرَيْن ثابتان على البادئ، وليس على الرادّ وِزْر، إلَّا إذا تجاوز عن الاعتداء بالمِثْل، ومع التجاوز كان هو البادئ في خصوص القدر الزَّائد.
وقد يُقال: إنَّه يجوز الاعتداء بالمِثْل، ولا وِزْر على الرَّاد؛ للآيات الظَّاهرة في الاعتداء بالمِثْل، فإنَّ فيها دلالة على جواز شتم المشتوم بمِثْل فعله. وقد ذهب إلى ذلك جماعة من الأعلام، منهم المحقِّق الأردبيلي (رحمه الله) في آيات الأحكام، فإنَّه قال -بعد ذكر بعض الآيات الظَّاهرة في الاعتداء بالمثل-: هما تدلَّان على جواز القصاص في النَّفس والطَّرف والجروح، بل جواز التعويض مطلقاً حتَّى ضرب المضروب، وشتم المشتوم بمثل فعلهما. (إلى أن قال): والأخيرة تدلُّ على عدم التجاوز عما فُعل به، وتحريم الظُّلم والتعدِّي. (انتهى كلامه). ولا بأس بهذا الكلام.
ومن جملة الروايات التي استُدلّ بها على حرمة السبِّ معتبرة السُّكوني عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): سَبَّابُ الْمُؤْمِنِ كَالْمُشْرِفِ عَلَى الْهَلَكَةِ.[2] والرِّواية معتبرة، فإنَّ الحسين بن يزيد النَّوفلي الواقع في السَّند من المعاريف. نعم، الإشكال في الدَّلالة، إذ لا تلازم بين الحرمة وبين الإشراف على الهلكة.
ومنها: صحيحة أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السَّلام) قَالَ: إِنَّ رَجُلاً مِنْ بَنِي تَمِيمٍ أَتَى النَّبِيَّ (صلى الله عليه وآله)، فَقَالَ: أَوْصِنِي، فَكَانَ فِيمَا أَوْصَاهُ أَنْ قَالَ: لَا تَسُبُّوا النَّاسَ؛ فَتَكْتَسِبُوا الْعَدَاوَةَ بَيْنَهُمْ.[3]
ولكن قد يقال: إنَّ النهَّي إرشاديّ إلى ما يترتَّب عليه من مفسدة العدواة، وليس النَّهيّ تكليفيّاً، حتَّى يدلَّ على الحرمة.
ثمَّ إنَّه بقي الكلام في أمرين: الأمر الأوَّل: في معنى السَّبِّ. الأمر الثاني: في مستثنيات حرمة السَّبِّ.
أمَّا الأمر الأوَّل: ففي لسان العرب: السَّبّ: الشَّتم، والسَّبُّ العداوة، ويُقال: صار هذا الأمر سُبًّا عليهم -بالضَّمِّ-: أي عارًا يُسبُّ به، وفي مفردات الراغب الأصفهاني: والسَّبُّ: الشّتم الوجيع...والسَّبَّابَةُ سمّيت للإشارة بها عند السَّبِّ، وتسميتها بذلك كتسميتها بالمسبِّحة؛ لتحريكها بالتسبيح.
والإنصاف: أنَّ المرجع في السبِّ إلى العرف، وهو متَّحد عندهم مع الشَّتم، وهو عبارة عمَّا يوجب إهانة المسبوب، وهتكه، كالقذف والتوصيف بالوضيع واللاشيء والحمار والكلب والخنزير والكافر والأعور والأعرج والأجذم، وغير ذلك من الألفاظ المُوجِبة للنَّقص والإهانة. وعليه، فيعتبر في مفهومه قصد الهَتْك، ولا يعتبر فيه مواجهة المسبوب.
وأمَّا الأمر الثاني: المعروف بين الأعلام أنَّ المؤمن المتجاهر بالفسق يجوز سبُّه بالمعصية التي تجاهر فيها، وذلك لأنَّ الفاسق إذا تجاهر بفِسْقه لا حرمة له؛ لأنَّه هو الهاتك لحرمته، وقد ذكرنا سابقاً في مبحث الغيبة مسألة جواز اغتياب المتجاهر بالفِسْق، ويتَّضح حكم المقام ممَّا تقدَّم سابقاً.
ومن جملة الرِّوايات التي ذكرناها سابقاً دليلاً لجواز اغتيابه رواية هارون بن الجهم عن الصَّادق جعفر بن محمد (عليه السَّلام) قال: إذا جاهرَ الفاسِقُ بفِسْقِه فلا حُرْمَةَ له، ولا غِيْبَة.[4] ولكنَّها ضعيفة بعدم وثاقة أحمد بن هارون، فراجع ما ذكرناه، فإنَّه نافع في المقام.
ومن جملة ما استُثني: المبتدع في الدِّين، فإنه يجوز سبه، ويدل على ذلك صحيحة دَاوُدِ بْنِ سِرْحَانَ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وآله): إِذَا رَأَيْتُمْ أَهْلَ الرَّيْبِ وَالْبِدَعِ مِنْ بَعْدِي، فَأَظْهِرُوا الْبَرَاءَةَ مِنْهُمْ، وَأَكْثِرُوا مِنْ سَبِّهِمْ، وَالْقَوْلَ فِيهِمْ وَالْوَقِيعَةَ، وَبَاهِتُوهُمْ؛ كَيْلَا يَطْمَعُوا فِي الْفَسَادِ فِي الْإِسْلَامِ، وَيَحْذَرَهُمُ النَّاسُ، وَلَا يَتَعَلَّمُوا مِنْ بِدَعِهِمْ؛ يَكْتُبِ اللهُ لَكُمْ بِذلِكَ الْحَسَنَاتِ، وَيَرْفَعْ لَكُمْ بِهِ الدَّرَجَاتِ فِي الْآخِرَةِ.[5]