الدرس 74 _زكاة الغلات الأربعة 12
ومنها: وهو العمدة في المقام، ما ذكره المحقِّق الهمداني (رحمه الله).
وحاصله: أنَّ هذه المسألة من الفروع العامَّة البلوى التي يجب معرفتها والفحص عنها على كلِّ مَنْ تجب عليه الزَّكاة، فيمتنع عادةً غفلة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) عن ذلك وعدم الفحص عن حكمها، مع شدَّة حاجتهم إلى معرفته، كما أنَّه يستحيل عادةً أن يشتهر لديهم استثناء المؤونة مع مخالفته لما هو المشهور بين العامَّة من غير وصوله إليهم من أئمَّتهم (عليهم السلام).
وعلى تقدير عدم اشتهار الاستثناء عندهم يكون الحكم لديهم لا محالة على حسب ما يراه العامَّة من عدم الاستثناء، فهم إمَّا كانوا قائلين بالاستثناء أو بعدمه.
وعلى الأوَّل: لم يكن ذلك إلاَّ لوصوله إليهم من الإمام (عليه السلام) لقضاء العادة باستحالة صدور مثل هذا الحكم المخالف لما عليه العامَّة عن اجتهاد ورأي دون مراجعة الإمام (عليه السلام).
وعلى الثَّاني أي كونهم قائلين بعدم الاستثناء، كما عليه العامَّة : امتنع عادةً أن يشتهر خلافه في الأعصار المتأخِّرة عنهم تعويلاً على الوجوه الضَّعيفة التي ذكروها في مقابل إطلاقات الأدلَّة.
والحاصل: أنَّه يصحُّ أن يُدَّعى في مثل المقام استكشاف قول الإمام (عليه السلام) بطريق الحدس من رأي أتباعه.
فالانصاف أنه لو جاز استكشاف قول المعصوم (عليه السلام) من فتوى الأصحاب في شيء من الموارد. فهذا من أظهر مصاديقه.
هذا حاصل ما ذكره (رحمه الله)، وهو في غاية الصحَّة والمتانة؛ وبه تمام الكلام في أدلَّة المشهور.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى عدم الاستثناء، فقد يستدلُّ له ببعض الأدلَّة:
منها: إطلاق ما دلَّ على العُشْر ونصفه، قال صاحب المدارك بعد أن اختار هذا القول : «لنا قوله (عليه السلام) في عدَّة أخبار صحيحة: «ما كان منه يُسقى بالرّشاء والدَّوالي والنَّواضح ففيه نصف العُشْر، وما سقتِ السَّماء أو السّيح أو كان بعلاً ففيه العشر تامّاً»؛ ولفظ «ما» من صيغ العموم، فليتناول ما قابل المؤونة وغيره، وأظهر من ذلك دلالة ما رواه الشَّيخ في الحَسَن عن أبي بصير ومحمَّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) «أنَّهما قالا له: هذه الأرض التي يُزارع أهلها، ما ترى فيها؟ فقال: كلُّ أرض دفعها إليك السُّلطان فما حرثته (فتاجرته) فيها فعليك فيما (ممّا) أخرج الله منها الذي قاطعك عليه، وليس على جميع ما أخرج الله منها العُشْر، إنَّما العُشْر عليك فيما يحصل في يدك بعد مقاسمته لك»([1])، وهذه الرِّواية كالصَّريحة في عدم استثناء شيءٍ ممَّا يخرج من الأرض سوى المقاسمة، إذ المقام مقام البيان، واستثناء ما عسى أن يتوهَّم اندراجه في العموم».
أقول: قد يُناقش في الرِّوايات الواردة في العُشر ونصف العُشر بعدم ورودها في مقام البيان من هذه الجهة، بل هي مسوقة لبيان مقدار الصَّدقة الواجبة في الغلاَّت دون شرائط وجوبها، فهي نظير قوله (عليه السلام): «في كلِّ أربعين شاة شاةٌ».
والإنصاف: أنَّ هذه المناقشة، وإن تمَّت في بعض الرِّوايات، إلاَّ أنَّها لا تتمُّ في الرِّوايات المتعرِّضة لاعتبار النِّصاب، مثل صحيحة زرارة المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السلام) «ما أنبتتِ الأرضُ من الحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب ما بلغ خمسة أَوْسَاق، والوَسْق ستُّون صاعاً، فذلك ثلاثمائة صاع، ففيه العُشْر، وما كان منه يُسْقَى بالرّشاء والدَّوالي والنَّواضح ففيه نصف العُشْر...»([2])، فهي في مقام البيان من هذه الجهة، وهو وجوب العُشر مثلاً فيما أنبتته الأرض، والذي هو اسم لجميعه لا للزَّائد عن المؤونة.
وأمَّا حسنة أبي بصير ومحمَّد بن مسلم، فهي ظاهرة جدّاً في الحصر، أي عدم استثناء شيء ممَّا يخرج من الأرض سوى المقاسمة.
والجواب عن ذلك: أننا مع اعترافنا بإطلاق بعض الرِّوايات الواردة في العُشر ونصف العُشر، ومع اعترافنا بالحصر في حسنة أبي بصير ومحمَّد بن مسلم، إلاَّ أنَّه مع ذلك يرفع اليد عن هذا الإطلاق، وعن هذا الحصر، بما ذكرناه أخيراً من الدَّليل على الاستثناء، وهو الذي ذكره المحقِّق الهمداني (رحمه الله) واخترناه.
لا يُقال: إنَّ دلالة الحَصْر قويَّة، كيف تخصَّص وتقيَّد بما ذُكِر؟!
فإنَّه يُقال: إنَّه مهما بلغتِ الرِّواية من الظُّهور فإنَّها تقبل التَّخصيص والتَّقييد، ما لم تصبح نصّاً في المطلوب.
ونظير ذلك ما ذكره الميرزا النَّائينيّ (رحمه الله) في صحيحة محمَّد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) الواردة في الصَّوم «قال: سمعتُ أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لا يضرُّ الصَّائم ما صنع إذا اجتنب ثلاث خصالٍ: الطَّعام والشَّراب، والنِّساء، والارتماس في الماء»([3])، وقد ذكر الميرزا النَّائينيّ (رحمه الله): «أنَّ أقوى إطلاق عثرنا عليه في الأبواب الفقهيَّة هو هذا الحديث، ومع ذلك رفعنا اليد عن إطلاقه بما ورد في بقيَّة المفطرات...»، وهكذا نقول هنا.
ومنها: رواية محمَّد بن عليِّ بن شجاع النَّيسابوريّ «أنَّه سأل أبا الحسن الثَّالث (عليه السلام) عن رجل أصاب من ضيعته من الحنطة مائة كرّ ما يُزكّى، فأخذ منه العُشر عشرة أكرار، وذهب منه بسبب عمارة الضّيعة ثلاثون كرّاً، وبقي في يده ستّون كرّاً، ما الذي يجب لك من ذلك؟ وهل يجب لأصحابه من ذلك عليه شيء؟ فوقع (عليه السلام): لي منه الخُمس ممَّا يفضل من مؤونته»([4])، فإنَّها صريحة في أخذ العُشر من جميع ما حصل من الأرض، وأنَّ المؤونة خرجت بعد ذلك، وهو، وإن كان من كلام السَّائل، إلاَّ أنَّ الإمام (عليه السلام) قرَّر ذلك ولم ينكره عليه: وتقريره حجة.
وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بجهالة محمَّد بن عليِّ بن شجاع النَّيسابوريّ.
وثانياً: أنَّ الظَّاهر كون لفظ (أُخذ) بالبناء للمجهول، فلا يكون ذلك من معتقدات السَّائل، بل من معتقدات الآخذ، وهو عامل السُّلطان، ومن المعلوم أنَّ بناءهم لم يكن على استثناء المؤونة.
وعليه، فليس ترك تعرُّض الإمام (عليه السلام) لبيان حاله كاشفاً عن مشروعيَّة فِعْله وصحَّة عمله.
وثالثاً: أنَّه لا ظهور في الرِّواية في كون العمارة من المؤونة التي تخرج من نماء الضَّيعة، لما ستعرف إن شاء الله تعالى أنَّ القائل بخروج المؤونة يخصّها بالمؤونة التي تتكرّر في كلِّ سنة.
وعليه، فتكون الرِّواية مخالفة لما عليه الأعلام.
([1]) الوسائل باب 7 من أبواب زكاة الغلاَّت ح1.
([2]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح5.
([3]) الوسائل باب 1 من أبواب ما يمسَك عنه الصائم ح1.
([4]) الوسائل باب 5 من أبواب زكاة الغلاَّت ح2.