الدرس 73 _زكاة الغلات الأربعة 11
الأمر الثَّاني: اِختلف الأعلام في استثناء المؤن كلِّها، فالمعروف بين الأعلام أنَّه لا تجب الزَّكاة إلاَّ بعد إخراج المؤن كلِّها، منهم المصنِّف (رحمه الله) هنا وفي البيان وفي الجواهر: «فلا ريب في أنَّه المشهور شهرةً عظيمةً، كما حكاها غير واحدٍ عليه، بل في ظاهر الغنية أو صريحها الإجماع عليه».
وفي المقابل ذهب جماعة من الأعلام إلى عدم الاستثناء، منهم الشَّيخ (رحمه الله) في الخلاف والمبسوط، فذكر أنَّ المؤن كلَّها على ربِّ المال دون الفقراء، ونسبه في الخلاف إلى جميع الفقهاء، ونقل جَمْعٌ من الأصحاب عنه في الخلاف دعوى الإجماع عليه إلاَّ من عطاء.
ولكن في مفتاح الكرامة بعد نَقْل عبارة الخلاف وما ادِّعاه من الإجماع قال: «ولم يدّعِ على ذلك إجماع الأصحاب كما نقلوا عنه، وأراد بجميع الفقهاء فقهاء العامَّة، ولم يرد فقهاءنا، كما هو المعروف من طريقته لمن مارس كلامه فيه، وكيف يدَّعي إجماع أصحابنا والفقيه والهداية والمقنعة وجمل العلم نصب عينيه...».
وممَّنْ ذهب إلى عدم الاستثناء أيضاً الفاضل يحيى بن سعيد صاحب الجامع (رحمه الله)، والشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في فوائد القواعد على ما نقله عنه صاحب المدارك (رحمه الله)، وأنَّه ذكر أنَّه لا دليل على استثناء المؤن سوى الشُّهرة، وقال: «إنَّ إثبات الحكم بمجرَّد الشُّهرة مجازفة».
وذهب إلى هذا القول أيضاً جملة من متأخِّري متأخِّري المتأخِّرين، منهم السيِّد الحكيم في المستمسك، وذكر الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه الله) «إنَّ هذا القول لا يخلو من قوَّة»، ولكنَّه في ذَيْل كلامه نفى البُعْد عمَّا ذهب إليه المشهور.
أقول: لا بدَّ من ذِكْر أدلَّة الطَّرفَيْن حتى نكون على بصيرة من أمرنا:
أمَّا مَنْ ذهب إلى الاستثناء وهو قول المشهور : فقد استُدلَّ له بجملة من الأدلَّة:
منها: الإجماع المدَّعى في الغنية.
وفيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة، فلا حاجة للإعادة.
ومنها: قوله تعالى: «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين ﴾ ]الأعراف: 199[، وقوله تعالى: « وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ ﴾ ]البقرة: 219[، والعفو هو الزَّائد عن المؤونة.
قال في الصِحاح: «عفو المال ما يفضل عن النفقة» أي المؤونة ، وحينئذٍ فكلُّ ما يقابل النفقة ليس من العفو.
وفيه أوَّلاً: أنَّ الكلام في مؤونة الزَّرع، لا مؤونة المالك، ومفاد الآية الشَّريفة والله العالم هو مؤونة المالك.
وأمّا دعوى استفادة استثناء مؤونة الزَّرع من ذلك بالأولويَّة، فعهدتها على مدَّعيها.
وثانياً: أنَّ ظاهر الآية الشَّريفة هو أخذ تمام الزَّائد لا عُشره أو نصفه.
وثالثاً: أنَّ الآية الشَّريفة غير مختصَّة بالمال الزَّكوي، بل مقتضى إطلاقها دَفْع تمام الزَّائد حتى من الأجناس غير الزكويَّة، ولا قائل بذلك.
ومنها: أنَّ النِّصاب مشترك بين المالك والفقراء، فلا يختصُّ أحدهم بالخسارة، كما لا يختصُّ بالنَّفع، ولا قائل بالفصل بين المؤونة اللاَّحقة والمؤونة السَّابقة، مع أنَّ المؤونة السَّابقة سبب الزِّيادة، فتكون على الجميع.
وفيه: أنَّ هذا الكلام إنْ تمَّ فإنَّما يتمُّ بالنِّسبة إلى المؤونة المتأخِّرة عن تعلُّق حقِّ الفقراء به، لا المؤونة المتقدِّمة عليه.
وأمَّا عدم القول بالفصل، فلا يكفي في الإلحاق ما لم يثبت القول بعدم الفصل.
ومنها: أنَّ كون المؤونة على المالك ضرر عليه، وهو منفي بقاعدة نفي الضَّرر، فإنَّها حاكمة على جميع الأدلَّة الأوليَّة.
وفيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنَّ هذه القاعدة لا تجري فيما لو كان المورد نفسه ضرريّاً كما فيما نحن فيه، فإنَّ وجوب إخراج الزَّكاة ضرريٌّ في نفسه.
وعليه، فلا تكون القاعدة حاكمةً على الأدلَّة الأوليَّة.
ومنها: أنَّ الزَّكاة في الغلاَّت إنَّما تجب في النَّماء والفائدة، ولا تتناول المؤونة؛ إذ لا تلاحظ الفائدة إلاَّ بعد إخراجها شأنها في ذلك شأن الخمس الذي لا يكون إلاَّ بعد المؤونة.
وفيه: أوَّلاً: أنَّه لا يظهر من الأدلَّة تعلَّق الزكاة بالفائدة حتى تكون بعد إخراج المؤونة، بل ظاهر الرِّوايات تعلّقها بمطلق ما تنبته الأرض من الغلاَّت الأربع، فلا يُقَاس ذلك بالخُمس الذي موضوعه الفائدة.
كما في موثَّقة سماعة «قال: سألتُ أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمسِ، فقال: في كلِّ ما أفاد النَّاس من قليل أو كثير»([1]).
وقد ورد في جملة من الرِّوايات أنَّ الخمس بعد المؤونة، وسيأتي ذكرها إن شاء الله تعالى في كتاب الخمس.
ومنها: حسنة الفضلاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث «قال: تترك للحارس أجراً معلوماً، ويُترك من النَّخل مِعافارة واُمّ جعرور، ويُترك للحارس يكون في الحائط العذق والعذقان والثَّلاثة لحفظه إيَّاه»([2]).
والقول: بأنَّه أخصُّ من المدَّعى، مدفوعٌ بعموم التَّعليل، مع أنَّه لا قائل بالفرق بين مؤونة الحارس وغيره.
وفيه: أوَّلاً: أنَّه لا يدلُّ إلاَّ على استثناء المؤونة المتأخِّرة عن زمان الخرص الذي هو بعد تعلُّق الوجوب.
ولا يكفي عدم القول بالفرق بينها وبين المؤن السَّابقة عليه، بل لا بدَّ من القول بعدم الفرق، وهو غير ثابت.
وثانياً: أنَّه قد يُقال: إنَّ هذه الحسنة دالَّة على عدم الاستثناء؛ لأنَّ التعرُّض لترك معافارة وأم جعرور، وما يُدفع للحارس، وعدم التعرُّض لغير ذلك، ومنه المُؤن اللاَّزمة غالباً، يدلُّ على عدم استثنائها.
ومنها: ما في الفِقه الرَّضوي، فعن بعض نسخه: «بعد خراج السُّلطان ومؤونة العمارة والقرية»، وفي بعض نسخه الأخر: «بعد خراج السُّلطان ومؤونة العمارة للقرية»([3]).
والمراد بمؤونة القرية ما له دَخْل في الزرَّع، لغلبة كون الزَّرع في القرى، لا مؤونتها من حيث هي.
وفيه: ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أنَّ الفِقه الرَّضويّ لم يثبت كونه روايةً، بل عرفت أنَّه فتاوى لابن بابويه، إلاَّ ما كان فيه بعنوان: (قال) أو (رُوِي)، ونحو ذلك، فتكون روايةً مرسلةً.
([1]) الوسائل باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح6.
([2]) الوسائل باب 8 من أبواب زكاة الغلات ح4، ومعافارة وأمّ جعرور نوعان من التَّمر رديئان لا يُؤكلان.
([3]) الفقه الرضوي 197.