الدرس 72 _زكاة الغلات الأربعة 10
ويدلُّ على ذلك أيضاً: أنَّ حصَّة السُّلطان ليست مملوكةً للزَّارع من أوَّل الأمر، فلا وجه لوجوب الزَّكاة عليه فيها، كما في سائر موارد الاشتراك في الزَّرع؛ إذ ليس على الشَّريك زكاة حصَّة شريكه.
ثمَّ إنَّ الذي ذكرناه واضح بالنِّسبة لحصَّة السُّلطان المأخوذة بعنوان المقاسمة، وهل المراد بحصَّة السُّلطان التي عبَّر بها أكثر الأعلام هنا المأخوذة بعنوان المقاسمة فقط، أم تشمل ما يأخذه السُّلطان بعنوان الخراج، وهو المقدار الذي يأخذه من خراج العين من النُّقود أو غيرها؟
ذكر جماعة من الأعلام أنَّ المراد بحصَّة السُّلطان ما يشمل الأمرَيْن، أي المقاسمة والخراج، قال في الحدائق: «لا خلاف بين الأصحاب (رضوان الله عليهم) في استثناء حصَّة السُّلطان، والمراد بها ما يجعله على الأرض الخراجيَّة من الدَّراهم، ويُسمَّى خراجاً، أو حِصَّة من الحاصل، ويسمَّى مقاسمةً»، وفي المسالك قال: «والمراد بحصة السُّلطان ما يأخذه على الأرض على وجه الخراج أو الأُجْرة ولو بالمقاسمة...»، وعن جامع المقاصد: «المراد بحصة السلطان خراج الأرض أو قسمتها..».
ولا يخفى أنَّ المراد بالمقاسمة والخراج في الرِّوايات شيء واحد، والتَّفكيك بينهما اصطلاح حادث في لسان الفقهاء.
أقول: هل يكفي ذلك في إلحاق الخراج بالمقاسمة واستثنائه من الزَّكاة أم لا؟
أمَّا التَّسالم بينهم فبما أنَّه دليل لُبِّيٌّ فيُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، وهو المقاسمة.
ومن هنا، قال العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة: «تذنيب: لو ضرب الإمام على الأرض الخراج من غير حصَّة، فالأقرب: وجوب الزَّكاة في الجميع؛ لأنَّه كالدَّين..».
وبالجملة، فالتَّسالم بين الأعلام يُقتصر فيه على القدر المتيقَّن، وهو المقاسمة.
وأمَّا الرِّوايتان المتقدِّمتان مع قطع النَّظر عن ضعف الرِّواية الثَّانية فيظهر من وقوع التَّعبير في الرِّواية الأُولى بلفظ المزارعة، وفي الرِّواية الثَّانية بلفظ العُشْر ونصف العُشْر في حصصهم كون المفروض فيهما وقوع القبالة بحصَّة من حاصل الزَّرع والنَّخل.
وهذا ما يُسمَّى في عرف الفقهاء بالمقاسمة، فلا تشملان الخراج، وهو المقدار الذي يأخذه من خارج العين من النُّقود وغيرها، والذي هو لدى التَّحقيق عبارة عن أُجرة الأرض المتعلِّقة بذمَّة المستأجر.
نعم، قد يستدلُّ لإلحاق الخراج بالمقاسمة بما في الفِقه الرَّضويّ: «وليس في الحنطة والشَّعير شيءٌ إلى أن يبلغ خمسة أَوْسق، والوَسْق ستُّون صاعاً، والصَّاع أربعة أمداد، والمُدّ مأتان واثنان وتسعون درهماً ونصف، فإذا بلغ ذلك وحصل بعد خراج السُّلطان ومؤونة العمارة والقرية أخرج منه العُشْر إن كان سقي بماء المطر أو كان بعلاً، وإن كان سُقِي بالدِّلاء والغرب ففيه نصف العُشْر، وفي التَّمر والزَّبيب مثل ما في الحنطة والشَّعير...»([1]).
ولكن قد عرفت أنَّ الفِقه الرَّضويّ فتاوى لابن بابوَيْه (رحمه الله) إلاَّ ما كان فيه بعنوان (رُوِي)، ونحو ذلك، فتكون روايةً مرسلةً.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الأقرب إلحاق الخراج بالمؤن التي يأتي الكلام عنها في الأمر الثَّاني لا المقاسمة.
ثمَّ إنَّ الإنصاف: أن المراد بالسُّلطان ليس خصوص العادل، بل أعمّ منه ومن المخالفين الذين كانوا يدَّعون الخلافة والولاية على المسلمين لا عن استحقاق، كما هو الشَّأن بالنِّسبة إلى الموجودين حال صدور الرِّوايات.
وهل يعمُّ سلاطين الشِّيعة غير المعصومين (عليهم السلام)؟
الظَّاهر: ذلك؛ لأنَّ المتبادر من إطلاق السُّلطان إرادة مطلقه، بل كلُّ متغلبٍ مسؤولٌ على جباية الخراج والصَّدقات من غير التفات إلى مذهبه.
ثمَّ إنَّ الظَّاهر أنَّه يُلحق بحصَّة السُّلطان ما يأخذه الجائر من الأراضي غير الخراجيَّة، كالموات وأرض الصُّلح والأنفال، فإنَّ الظَّاهر جريان السِّيرة من صدر الإسلام على المعاملة مع الجائر معاملة السُّلطان العادل في ترتيب الأثر على ما يأخذه بهذا العنوان، ولو من غير الأرض الخراجيَّة.
ومهما يكن، فقد تسالم الأعلام قديماً وحديثاً على عدم سقوط الزَّكاة بعد دفع حصَّة السُّلطان، بل ذهب إلى ذلك أيضاً أكثر العامَّة، حيث التزموا بعدم سقوط الزَّكاة فيما بقي في يده بعد إعطاء حصَّة السُّلطان إذا كان الباقي بالغاً للنِّصاب، ولم يخالف إلاَّ أبو حنيفة، حيث قال: «لا عُشر في الأرض الخراجيَّة».
ولكنك عرفت مقام التسالم على عدم السقوط، مضافاً إلى الروايات الكثيرة وقد تقدم بعضها.
نعم، في جملة من الرِّوايات ما يدلُّ على السُّقوط:
منها: صحيحة رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: سألته عنِ الرَّجل يرثُ الأرض أو يشتريها، فيؤدِّي خراجها الى السلُّطان، هل عليه (فيها) عُشْر؟ قال: لا»([2])، وهي صحيحة بطريق الشَّيخ، وإن كانت ضعيفة بطريق الكليني بسهل بن زياد.
ومنها: رواية سهل بن اليسع «أنَّه حيث أنشأ سهل آباد، وسأل أبا الحسن موسى (عليه السلام) عمَّا يخرج منها، ما عليه؟ فقال: إن كان السُّلطان يأخذ خراجه فليس عليك شيء، وإن لم يأخذ السُّلطان منها شيئاً فعليك إخراج عُشْر ما يكون فيها»([3])، وهي ضعيفة بعدم وثاقة عبد الله بن مالك.
ومنها: رواية أبي كهمس عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: من أخذ منه السلطان الخراج فلا زكاة عليه»([4]). وهي ضعيفة بعدم وثاقة أبي كهمس.
وحُمِلت هذه الرِّوايات على عدَّة محامل:
منها: الحَمْل على التقيَّة لموافقتها لأبي حنيفة.
ومنها: الحَمْل على إرادة عدم الزَّكاة فيما يأخذه من الخراج.
ومنها: الحَمْل على أنَّ الخراج كان من غير الحاصل، وباحتسابه من المؤن لم يبقَ شيءٌ تجب فيه الزَّكاة.
ومنها: الحَمْل على جواز احتساب ما يأخذه السُّلطان من الزَّكاة.
ولكنَّ الإنصاف: هو ردُّ علم هذه الرِّوايات إلى أهلها (عليهم السلام)، وهم أدرى بها، لا سيَّما وأنَّ الكلَّ أعرض عنها، بل هي مخالفة للسُّنَّة القطعيَّة، فتسقط عن الحجيَّة، والله العالم بحقائق أحكامه.
([1]) الفِقه الرَّضويّ: ص197.
([2]) الوسائل باب 10 من أبواب زكاة الغلاَّت ح2.
([3]) الوسائل باب 10 من أبواب زكاة الغلاَّت ح1.
([4]) الوسائل باب 10 من أبواب زكاة الغلاَّت ح3.