الدرس 75 _زكاة الغلات الأربعة 13
ومنها: ما يظهر من نصوص نصف العُشر من أنَّ هذه النَّقيصة في الفريضة في مقابلة ما يحتاج إليه الزَّرع من الآلات كالدَّوالي والنَّواضح ونحوها، ولو أنَّ المؤونة تخرج من الأصل لم يفرق في الفريضة بين ما يُسقى سيحاً وبين ما يُسقى بالدَّوالي.
وفيه مع أنَّ الحكم تعبُّدي لا تعرف حكمته : أنَّه يمكن أن يكون ذلك للكلفة في استعمال الأجراء على السَّقي والحفظة وأشباه ذلك زائداً على بدل الأُجْرة فناسب التَّخفيف، كما أنَّ الغالب مباشرة المالك للعمل بنفسه في تلك الأوقات، وستعرف إن شاء الله تعالى أنَّ عمله ليس من المؤن، فراعى حاله الشَّارع بنقصان الفريضة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الأقوى ما ذهب إليه المشهور منِ استثناء المؤن جميعها من غير فرق بين المؤن السَّابقة على زمان التعلُّق واللاَّحقة عليه.
ولقد أحسن صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: «كلَّما أجاد الفقيه التأمُّل في المسألة ازداد القول بخروج المؤن قوَّة...».
ثمَّ إنَّه بقي الكلام في أمرَيْن:
الأمر الأوَّل: بناءً على استثناء المؤن كما هو المشهور والصَّحيح عندنا فهل يعتبر في تقدير النِّصاب أن يكون بعد المؤونة، فلا زكاة حينئذٍ إذا لم يحصل النِّصاب، أم قبلها فيزكى الباقي بعدها وإن قلّ، أم يعتبر ما سبق على الوجوب كالسّقي والحرث قبل النِّصاب، فإن لم يبلغ الباقي نصاباً فلا زكاة، وما تأخَّر كالحصاد والجذاذ ونحوهما بعدها، فيزكي الباقي وإن قلَّ؟
هناك ثلاثة أقوال:
الأوَّل وهو المشهور بين الأعلام : أنَّه يعتبر النِّصاب بعد استثناء المؤن مطلقاً.
وقد يستدلُّ له بدليلَيْن:
الدليل الأوَّل: ما عن الفِقه الرَّضوي: «فإذا بلغ ذلك وحصل بعد خراج السُّلطان ومؤونة العمارة والقرية أخرج منه العُشر».
والمراد من اسم الإشارة «ذلك» هو النِّصاب، أي إذا بلغ النِّصاب بعد خراج السًّلطان والمؤونة أخرج منه العشر.
والإنصاف: أنَّ الدَّلالة، وإن كانت واضحةً، إلاَّ أنَّك عرفت أنَّ الفِقه الرَّضوي لم يثبت كونه روايةً، بل هو فتاوى لابن بابويه، إلاَّ ما كان فيه بعنوان: (قال) أو (رُوِي)، ونحوهما، فتكون روايةً مرسلةً.
الدَّليل الثَّاني: هو أصل البراءة، أي براءة الذِّمَّة عن وجوب الزَّكاة فيما نقص عن خمسة أَوْسُق بعد إخراج المؤونة منه.
وتوضيحه: أنَّ الظَّاهر من صحيحة زرارة المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: ما أنبتتِ الأرضُ من الحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب ما بلغ خمسة أوساق، والوسق ستُّون صاعاً، فذلك ثلاثمائة صاع، ففيه العشر...»([1])، هو إرادة عُشر مجموع الثَّلاثمائة صاع، وهو ثلاثون صاعاً.
وعليه، فهذه الصَّحيحة ظاهرها أنَّه إذا بلغ ما أنبتته الأرض ثلاثمائة صاع ثبت فيه ثلاثون صاعاً.
ولكن علمنا ممّا دلَّ على استثناء المؤونة أنَّه إذا كان جميع ما أنبتته الأرض بالغاً ثلاثمائة صاع لم يجب عُشر جميعه، أي ثلاثون صاعاً، إلاَّ أنَّه لا يُعلم هل استثناء المؤونة بعد النِّصاب أم قبله، ويحتمل أن يكون المراد بقوله (عليه السلام): «ففيه العُشر»، أي فيما يبقى منه بعد استثناء المؤونة.
وبناءً على هذا، فيكون النِّصاب معتبراً قبل استثناء المؤونة.
ويحتمل أن يكون المراد بقوله: «ما بلغ خمسة أَوْسَاق»، أي ما بلغ هذا المقدار بعد استثناء المؤونة كلِّها، فيكون النصاب معتبراً بعد استثناء المؤونة، كما هو مذهب المشهور.
وقد يُقال: هذا الاحتمال الثَّاني أوفق بظاهر قوله (عليه السلام): «ففيه العُشر»، حيث إنَّ ظاهره إرادة عُشر مجموع الخمسة أَوْسُق لا ما يبقى منها بعد إخراج المؤونة.
وعليه، فيكون ما دلَّ على استثناء المؤونة مقيِّداً لأدلَّة اعتبار النِّصاب، ومعنى تقييده لأدلَّة اعتبار النِّصاب هو كون النِّصاب معتبراً بعد استثناء المؤونة كلِّها.
وقد يُقال: إنَّ هذا ليس بأَولى من العكس، فيكون ما دلَّ على استثناء المؤونة مقيِّداً لإطلاق: «ففيه العُشر».
ومعنى تقييده هو كون العُشر بعد استثناء المؤونة، أي تستثنى المؤونة بعد النِّصاب، ثمَّ يخرج العشر من الباقي، ومقتضاه كون النِّصاب معتبراً قبل إخراج المؤونة، وبما أنَّه ليس ارتكاب أحد التَّقييدَيْن بأهون من الآخر، فيكون الاحتمالان متكافئَيْن وبعد التَّساقط، يكون المرجع هو الأصل العمليّ، وهو براءة الذِّمَّة عن وجوب الزَّكاة فيما نقص عن خمسة أَوْسُق بعد إخراج المؤونة.
القول الثَّاني: هو اعتبار النِّصاب قبل استثناء المؤونة فيُزكَّى الباقي منه بعد إخراجها وإن قلَّ، ذهب إليه جملة من الأعلام، منهم العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة، حيث قال: «الأقرب: أنَّ المؤونة لا تؤثِّر في نقصان النِّصاب وإن أثَّرت في نقصان الفرض، فلو بلغ الزَّرع خمسة أَوْسُق مع المؤونة، وإذا أسقطت المؤونة منه قصر عن النِّصاب وجبت الزَّكاة لكن لا في المؤونة، بل في الباقي»، واختاره أيضاً صاحب المدارك (رحمه الله) والفاضل الخراساني (رحمه الله) في الذَّخيرة.
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح5.