الدرس 248 _ المقصد الثالث في العام والخاص 23
الدرس 248 _ المقصد الرابع في العام والخاص 23
الفصل الثاني: تعريف العام وأقسامه وصيغه / المبحث السادس: صحة التمسك بالعموم مع عدم الشكّ في التخصيص.
· الحكم الواقعي تارة يكون أولي وأخرى ثانويّ، والحكم الثانويّ تارة يؤخذ في موضوعه أحد عناوين أحكامه الأولية، وأخرى لا يؤخذ.
· اذا اجتمع عنوانان أوّلي وثانويّ.
· في كيفية تعقّل صحة الصوم في السفر والاحرام قبل الميقات مع قيام الدليل على بطلانهما قبل النذر؛ وقد أجاب الاعلام عن هذا الاشكال بثلاثة أجوبة. (الجواب الأول والثاني)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثمّ قال صاحب الكفاية R: «والتحقيق أن يقال: إنه لا مجال لتوهم الاستدلال بالعمومات المتكلفة لأحكام العناوين الثانوية فيما شك من غير جهة تخصيصها، إذا أخذ في موضوعاتها أحد الأحكام المتعلقة بالأفعال بعناوينها الأولية، كما هو الحال في وجوب إطاعة الوالد، والوفاء بالنذر وشبهه في الأمور المباحة أو الراجحة؛ ضرورة أنّه معه لا يكاد يتوهم عاقل أنّه إذا شك في رجحان شيء أو حليته جواز التمسك بعموم دليل وجوب الإطاعة أو الوفاء في رجحانه أو حليته».
حاصل هذا الكلام: إنّ الأحكام الواقعية تارةً تكون أوّلية، وهي فيما إذا انصبّت على عناوينها الأوّلية الذاتية؛ كالحكم بإباحة الماء، والحكم بحلّية الغنم، وأخرى تكون ثانوية، وهي فيما إذا انصبّت على مواضيعها لعنوان طارئ عليها؛ كالحكم بحرمة الوضوء فيما إذا طرأ على الوضوء عنوان ضرري.
ثمّ إنّ هذه الأحكام الثانوية تارةً يؤخذ في موضوعها أحد عناوين أحكامها الأوّلية، وأخرى لا يؤخذ.
والأوّل، كما لو نذر فعل شيء، فإنّه يؤخذ في هذا الشيء عنوان الرجحان الشرعي المشروط في صحّة النذر؛ حيث يصبح موضوع وجوب الوفاء هو الفعل الراجح شرعاً لا مطلق الفعل، وكذا الحال في وجوب إطاعة الوالد، فإنّه يؤخذ في موضوعه الذي وجب بأمر الوالد به الإباحة المشروطة في الإطاعة، وكذا في التصالح على شيء، فإنّه يؤخذ في هذا الشيء الذي وجب الالتزام به بالصلح عنوان (ما لا يحلُّ حراماً ولا يحرِّم حلالاً)؛ كما جاء في خبر سلمة بن كهيل، قال: «سمعت علياً N يقول لشريح: ... الصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً حرَّم حلالاً، أو أحلَّ حراماً»[1]f109.
وكذا الشرط، فإنّه يشترط فيه أن لا يكون مخالفاً للكتاب العزيز؛ كما جاء في صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله N قال: «المسلمون عند شروطهم، إلا كلّ شرط خالف كتاب اللهL، فلا يجوز»[2]f110.
والثاني، وهو فيما إذا لم يؤخذ في موضوع الأحكام الثانوية أحد عناوين أحكامها الأوّلية؛ فكما في قاعدة نفي الحرج، فإنّه حكم ثانوي لم يؤخذ في موضوعه كونه مباحاً أو راجحاً شرعاً ونحو ذلك. وكذا الحرمة الثابتة للغنم بعنوان كونها موطوءة، فإنّ ثبوتها لها بهذا العنوان غير مشروط بثبوت الإباحة مثلاً بعنوانها الذاتي الأوّلي؛ يعني لم تؤخذ الإباحة للغنم بعنوانها الأوّلي شرطاً في ترتب الحرمة عليها بعنوانها الثانوي، وهو كونها موطوءة، بل الحرمة تترتب عليها إذا صارت موطوءة، وإن فرض عدم ثبوت أي حكم شرعي لها بعنوانها الأوّلي.
إذا عرفت ذلك، فإنّه لا ينبغي توهم صحة التمسك بعمومات الأحكام الثانوية إذا لم يكن الشك من ناحية التخصيص فيما إذا أخذ في موضوعات هذه الأحكام الثانوية أحد عناوين الأحكام الأوّلية؛ والسرّ فيه أنّه لا بدّ من إحراز هذه العناوين من دليل خارجي؛ إذ لا تتولّى كبرى العمومات صغرياتها؛ فإنّ عموم وجوب الوفاء بالنذر لا يتولّى تحديد كون متعلّقه، وهو الوضوء أو الغسل بالماء المضاف مثلاً، راجحاً أم لا، ولا عمومات وجوب طاعة الوالد تتولّى تحديد كون ما أمر به الوالد مباحاً أم لا، ولا عمومات وجوب الالتزام بالصلح تتولّى تحديد كون المتصالح عليه ممّا لا يحرِّم حلالاً ولا يحلِّ حراماً، فهذا كلّه من قبيل ما لو قال المولى: (أكرم كلّ عالم)، ثمّ شككنا في عالمية زيد، فإنّ هذه الكبرى لا تتولّى إثبات عالميته أو نفيها.
نعم، إذا لم يؤخذ في موضوعات الأحكام الثانوية أحد عناوين الأحكام الأوّلية؛ كما لو فرضنا أنّه لم يؤخذ في صحّة النذر أن يكون متعلّقه راجحاً، فهنا لو شككنا في صحة الوضوء أو الغسل بالماء المضاف، فيمكن التمسك بكبرى عموم وجوب الوفاء بالنذر؛ لأنّ الصغرى، وهي صحّة هذا النذر، محرزة، فيقال: هذا أي نذر الوضوء أو الغسل بالماء المضاف نذرٌ صحيح، وكلّ نذر صحيح يجب الوفاء به، فهذا النذر يجب الوفاء به.
فالنتيجة: أنّ عدم صحة التمسك بعموم الحكم الثانوي فيما إذا كان الشك في غير التخصيص ليس على إطلاقه، فإنّه لا يصح التمسك بعمومه فيما إذا أخذ في موضوعه عنوان الحكم الأوّلي، ويصحّ التمسك بعمومه فيما إذا لم يؤخذ في موضوعه.
ثمّ قال صاحب الكفاية R: «وإذا كانت محكومة بعناوينها الأولية بغير حكمها بعناوينها الثانوية، وقع المزاحمة بين المقتضيين، ويؤثر الأقوى منهما لو كان في البين، وإلا لم يؤثر أحدهما، وإلا لزم الترجيح بلا مرجح، فليحكم عليه حينئذٍ بحكم آخر؛ كالإباحة إذا كان أحدهما مقتضياً للوجوب والآخر للحرمة مثلاً».
هذا البحث لا ربط له بما نحن فيه، وإنّما ذكره صاحب الكفاية هنا من باب أنّ الشيء بالشيء يذكر.
وحاصله: أنّه إذا اجتمع عنوانان أوّلي وثانوي؛ كما لو اجتمع عنوان استحباب إجابة دعوة المؤمن الأوّلي مع عنوان حرمته الثانوي فيما إذا لزم من استجابة دعوته عنوان محرّم، فعلى طبق أيّهما يكون الحكم؟
يقول: إنّ هذا المورد من موارد تزاحم المقتضيين؛ فإن كان ملاك أحد الحكمين أقوى من ملاك الآخر، فيقدم الأقوى؛ كما في المثال المتقدم؛ حيث يقدم ملاك الحرمة لأقوائيّته على ملاك الاستحباب، وإن كانا متساويين ملاكاً؛ كما لو اقتضى أحدهما الوجوب واقتضى الآخر الحرمة، فلا يقدَّم حينئذٍ أيٌّ منهما؛ للزومه الترجيح بلا مرجح، وإنّما يحكم بالإباحة.
ثمّ قال صاحب الكفاية R راجعاً إلى أصل المطلب: «وأما صحة الصوم في السفر بنذره فيه بناء على عدم صحته فيه بدونه وكذا الإحرام قبل الميقات، فإنما هو لدليل خاص، كاشف عن رجحانهما ذاتاً في السفر وقبل الميقات، وإنّما لم يأمر بهما استحباباً أو وجوباً لمانع يرتفع مع النذر، وإما لصيرورتهما راجحين بتعلق النذر بهما بعد ما لم يكونا كذلك، كما ربما يدل عليه ما في الخبر من كون الإحرام قبل الميقات كالصلاة قبل الوقت».
بعد أن ثبت عدم صحّة التمسك بالعام فيما لو كان الشك في غير التخصيص، يصبح تأييد دعوى صحة التمسك بمثال صحّة الإحرام قبل الميقات وصحة الصوم في السفر فيما إذا وقعا متعلّقين للنذر، في غير محلّه.
إن قلتَ: ولكن كيف صحّا رغم كونهما مرجوحين بدلالة النهي عنهما قبل النذر؟!
قلتُ: إنّما صحّا لدليل خاص، وهو الروايات المتقدمة.
إن قلتَ: إنّما يفيد الدليل الخاص صحتهما، ولكن كيف يمكن تعقلّهما ثبوتاً بعد قيام الدليل على اعتبار الرجحان في متعلّق النذر، وقيام الدليل أيضاً على بطلان الصوم في السفر، والإحرام قبل الميقات، فمع الدليلين المذكورين كيف تعقل صحتهما بالنذر، والروايات المتقدمة وإن دلّت على الصحة إلا أنّ ذلك فرع إمكان ذلك ثبوتاً؟!
قلتُ: أجاب صاحب الكفاية عن ذلك بثلاثة أجوبة:
الجواب الأوّل: أن يكون ما دلّ على صحتهما بالنذر كاشفاً عن رجحانهما ذاتاً، وإنّما لم يؤمر بهما استحباباً أو وجوباً بل ورد النهي عنهما شرعاً؛ لاقتران رجحانهما بمانع لا يرتفع إلا بالنذر، فإذا تعلّق بهما النذر ارتفع المانع.
وبالجملة، فإنّ وجود مقتضي الراجحية فيهما قبل النذر ليس كافياً وحده لتشريعهما؛ وذلك لوجود المانع من ذلك، وهو المشقّة مثلاً، وهذا المانع قد ارتفع مقارنة مع النذر، فلمّا ارتفع المانع أثَّر مقتضي راجحيّتهما أثره، فصحّ تعلّق النذر بهما لكونهما راجحين شرعاً.
هذا الجواب الأوّل وإن كان ممكناً ثبوتاً، إلا أنّه بعيد؛ لمنافاته مداومة الأئمة S وأصحابهم على ترك الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات، ولو كانا راجحين ذاتاً، وكانت المشقة مانعة عن توجه الطلب إليهم، لم يداوموا على تركهما.
الجواب الثاني: أن يكون عنوان الرجحان قد طرأ عليهما حين انعقاد النذر ومقارناً له ممّا يصحِّح تعلق النذر بهما، لا أنّ مقتضي الرجحان كما تقدم في الجواب الأوّل كان موجوداً قبل النذر وإنّما منعه مانع من تأثير أثره حتى جاء النذر فرفع المانع.
إن قلتَ: إنّ الصوم والإحرام أمران تعبّديان، فكيف يعقل أن تنشأ عباديتهما ورجحانهما من النذر وهو أمر توصلي؟!
قلتُ: إنّ رجحان وعبادية الصوم في السفر والإحرام قبل الميقات لم ينشآ من النذر، بل من عنوان عرض عليهما مقارنة مع انعقاد النذر، وإنّما كان دور النذر الكشف عن عروض هذا العنوان فحسب.