الدرس 64 _ مقدمات علم الاصول 64
المبحث الحادي عشر الفرق بين المشتق ومبدئه
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «الفرق بين المشتق ومبدئه مفهوما، أنَّه بمفهومه لا يأبى عن الحمل على ما تلبس بالمبدأ، ولا يعصى عن الجري عليه، لما هما عليه من نحو من الاتحاد، بخلاف المبدأ، فإنه بمعناه يأبى عن ذلك... وإلى هذا يرجع ما ذكره أهل المعقول في الفرق بينهما، من أنَّ المشتق يكون (لا بشرط) والمبدأ يكون (بشرط لا)، أي يكون مفهوم المشتق غير آب عن الحمل، ومفهوم المبدأ يكون آبيا عنه».
لمّا كان المبدأ (العلم) و(الكتابة) مثلاً، معناه العرض نفسه بما هو شيء من الأشياء، وماهيّة في قبال الماهيات الأخرى الجوهرية والعرضية، كان مغايراً لغيره، وغير متحد معه، ولذا لا يصحّ أن يقال: (زيد عِلم) أو (زيد كتابة)، إلا بضرب من العناية والتأويل.
وعليه، فالمبدأ لا يقبل الحمل؛ لعدم ملاحظة الاتحاد الوجودي مع الموضوع، فهو من هذه الجهة (بشرط لا)، وآبٍ عن الحمل. وإن شئت فقل: إنَّ (العلم) الذي هو عرض، لمّا كان وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه والمراد من عينيّة الوجود للموضوع هو الاتحاد في الوجود خارجاً بحيث لا يكون هناك أمران متمايزان في الخارج لاستحالة قيام العرض بذاته، فيمكن أن يلاحظ العرض بما هو هو، ومع قطع النظر عن عينيّة وجوده لموضوع. وعليه، فيكون حينئذٍ عرضاً مبايناً غير محمول، ويكون ملحوظاً (بشرط لا)؛ أي بشرط عدم الاتحاد والحمل.
وأمّا إذا لوحظ العرض على ما هو عليه من الاتحاد مع المحلّ بنحو من الاتحاد المصحِّح للحمل، فيكون عرضياً وملحوظاً بنحو (لا بشرط)؛ أي يلاحظ على ما هو عليه من العينية والاتحاد، ويكون هو مفاد المشتق. فالفرق بين المشتق ومبدئه هو اللا بشرطية، وبشرط اللائية.
إذا عرفت ذلك، فنسأل: بناءً على القول ببساطة مفهوم المشتق، هل بين المشتق ومبدئه مغايرة حقيقية أم اعتبارية؟
ذهبت جماعة من الأعلام إلى المغايرة الاعتبارية، وأنَّ المشتق ومبدأه شيء واحد في الواقع، وحقيقتهما واحدة، وإنَّما الفرق بينهما بالاعتبار؛ فالمبـدأ اعتُبر (بشرط لا)، والمشتق اعتُبر (لا بشرط).
وفيه: لو كان المشتقّ ومبدؤه شيئاً واحداً وحقيقة واحدة في الواقع، والفارق بينهما اعتباري، لما صحّ الحمل؛ إذ الاعتبار مهما كان لا يغيّر الواقع، فلماذا صحّ حمل الأوَّل على الذات دون الثاني، والحال أنَّه يشترط في صحة الحمل الاتحاد بين الموضوع والمحمول بأيّ نحو من الاتحاد؟!
فالإنصاف: أنَّ التغاير بينهما حقيقي، فإنَّهما يختلفان باختلاف حيثية اللحاظ المتقدمة، وهو أنَّه إن لاحظنا المبدأ من حيث إنَّه ماهية مستقلة في قبال الجوهر، أبى بنفسه عن الحمل على الذات، وإن لاحظناه من حيث إنَّ وجوده لنفسه عين وجوده لموضوعه، وأنَّه متّحد مع المحل ومندك فيه، أمكن حمله على الذات، وحيثيّتا التغاير واقعيّتان لا اعتباريتان، وعليه فالتغاير حقيقي أيضاً، وليس الأمر مجرّد اعتبار (لا بشرط) و(بشرط لا) حتى يقال: إنَّ اعتبار شيء على نحو (لا بشرط) لا ينفع مع المغايرة في الواقع، وأيضاً اعتبار شيء (بشرط لا) لا ينفع مع الاتحاد حقيقة، بل قد عرفت أنَّ الاتحاد بين الموضوع والمحمول أمر واقعي، وليس بالاعتبار لينتفي باعتبار آخر.
والخلاصة: إنَّ اعتبار الشيء (لا بشرط) اعتبار موافق لحيثية واقعية، واعتبار الشيء (بشرط لا) اعتبار موافق لحيثية واقعية أخرى، فافهم.
إشكال صاحب الفصول:
وممّا عرفت يندفع إشكال صاحب الفصول (رحمه الله)، وحاصله: إنَّ الفرق بين المشتق ومبدئه بلحاظ الأوَّل (لا بشرط)، والثاني (بشرط لا)، بالنسبة إلى العوارض الخارجية مع كون المفهوم فيهما واحداً ذاتاً، لا يصحّ؛ لأنَّه لا يوجب صحة حمل المشتق على الذات؛ ضرورة عدم صحّة حمل مثل (القيام) و(القعود) ونحوهما من المبادئ على الذوات؛ لعدم الاتحاد بينهما المصحِّح للحمل، وإن لوحظ المبدأ (لا بشرط) ألف مرة.
والخلاصة: إنَّ إشكال صاحب الفصول (رحمه الله) على أهل المعقول مبنيّ على إرادة الـ (لا بشرط) والـ (بشرط لا) الملحوظين في باب المطلق والمقيّد؛ يعني لحاظهما بالإضافة إلى العوارض الخارجية؛ فإنَّ تقسيم الماهية هناك إنَّما هو باعتبار الطوارئ والانقسامات اللاحقة للماهية.
فتارةً تلحظ الماهية مجرّدة عن جميع اللواحق والانقسامات التي يمكن أن تفرض لها، فهذه هي الماهية (بشرط لا) التي تكون من الأمور العقلية التي يمتنع صدقها على الخارجيات؛ باعتبار أنَّه لا وجود لها بما هي كذلك.
وأخرى تلحظ واجدة لأمر مخصوص (الإيمان) بالنسبة إلى (الرقبة)، فهذه هي الماهية (بشرط شيء).
وثالثة تلحظ على نحو الإطلاق بالنسبة لجميع الانقسامات، فهذه هي الماهية (لا بشرط)، ولكن هذا المعنى من الـــ (لا بشرط)، و(بشرط لا)، غير مقصود في المقام، بل هذه المقايسة مع الماهية في غير محلّها؛ لأنَّ حيثية اللحاظ في الماهية هناك، إنَّما هو بالنظر إلى العوارض الخارجية، من دون النظر إلى الذات؛ لذلك كانت الفوارق اعتبارية، بينما النظر في حيثيّتي اللحاظ في المشتق ومبدئه إلى الذات بقطع النظر عن العوارض الخارجية؛ فإن كان المبدأ من حيث ذاته مبايناً للذات، فهو آبٍ عن الحمل، وإن كان من حيث ذاته متّحداً معها وجوداً، فهو قابل للحمل.