الدرس 170 _ الإستصحاب 31
والإنصاف: هو أنه لا يستفاد من تلك الأخبار إلا الطهارة الظاهرية والحليّة كذلك، ولا يستفاد منها أكثر من ذلك.
وتوضيحه: أنه قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أن الحكم الظاهري متأخر في الرتبة عن الحكم الواقعي، لأنّ موضوع الحكم الظاهري هو الشكّ في الحكم الواقعي، والشكّ في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، كما أن الحكم الواقعي متأخر عن موضوعه. وعليه: فالحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي.
إذا عرفت ذلك فنقول:
أنّ المراد من «الشيء» في قوله (عليه السلام): «كلّ شيء نظيف، أو لك حلال»: إما أن يكون هو الشيء بعنوانه الأولي الذي يعرض عليه الحكم الواقعي، وإما أن يكون هو الشيء بوصف كونه مشكوك الطهارة أو الحلية.
وعليه: فإن كان المراد منه ذات الشيء بعنوانه الأولي فحتماً يكون المحمول وهو قوله (عليه السلام): «نظيفٌ أو حلالٌ» لبيان الحكم الواقعي، فيكون المراد: «كلّ شيء بعنوانه الأولي طاهرٌ حتى يتنجس، وكل شيء بعنوانه الأولي حلالٌ حتى تعرض عليه الحرمة لسببٍ من الأسباب».
وأما إن كان المراد منه هو الشيء المشكوك الطهارة والنجاسة، أو الحلية والحرمة فحتماً يكون المراد من المحمول هو الحكم الظاهري، ولا يصح أن يكون المراد منه الحكم الواقعي، لأن موضوع الحكم الواقعي هو «الشيء» بعنوانه الأولي لا «الشيء» بوصف كونه مشكوك الطهارة والنجاسة أو مشكوك الحلية والحرمة، فموضوع الحكم الواقعي لا يجتمع مع موضوع الحكم الظاهري، فإنّ «الشيء» بوصف كونه مشكوكاً متأخر في الرتبة عن «الشيء» بعنوانه الأولي، كما أنّ الحكم الظاهري متأخر في الرتبة عن الحكم الواقعي كما تقدم فلا يجتمعان.
ومن هنا يتضح: أنه لا يمكن إيجادهما معاً في إنشاءٍ واحد، إذْ كيف يلحظ في آنٍ واحدٍ شيئين أحدهما في طول الآخر، وكيف يستعمل اللفظ فيهما في آنٍ واحدٍ، وهل يصحّ استعمال اللفظ في أكثر من معنى.
وعليه: فلا يكون الإنشاء إلا لحكمٍ واحدٍ، إما الحكم الواقعي أو الظاهري، وظاهر صدر تلك الروايات وإنْ كان هو الحكم الواقعي لدلالته بحسب فهم العرف على ثبوت الحكم للشيء بعنوانه الأولي، إذْ ثبوته له بعنوان كونه مشكوك الطهارة والنجاسة يحتاج إلى مؤونة زائدة وإلى قرينة، فلو كانت النصوص المتقدمة خالية عن الذيل بأنْ كانت هكذا: «كلّ شيء نظيف» و «كلّ شيء لك حلال» لكانت دالّة على الحكم الواقعي بلا إشكال، ولكن الغاية المذكورة في الذيل تكون قرينة على أنّ المراد من الصدر هو الحكم الظاهري، لأنّ الحكم الواقعي لا يكون مغيَّ بالعلم بالخلاف، بل غاية الحكم الواقعي إنما هي انتهاء زمانه بحسب الجعل الشرعي كالغروب الذي أخذ غايةً لوجوب الصوم وصلاة الظهرين، أو تبدّل موضوعه عما كان عليه كما إذا صار الخلّ خمراً، وهذا بخلاف الحكم الظاهري فإنه يكون مغيَّ بالعلم بالخلاف، بداهة أنّ غاية الحكم الظاهري إنما هو انكشاف الخلاف.
وعليه: فبسبب هذه القرينة تكون النصوص المتقدمة دالّة على الحكم الظاهري، ويصبح مفادها هكذا: «هو أنّ كلّ مشكوك الطهارة والنجاسة، أو كلّ مشكوك الحليّة والحرمة فهو محكوم بالطهارة والحليّة ظاهراً إلى أن ينكشف الخلاف ويعلم بالنجاسة والحرمة». وهذا المعنى لا ينطبق إلا على قاعدة الطهارة والحلّ.
نعم، يمكن أن يجعل قوله (عليه السلام): «حتى تعلم أنه قذر، أو حرام» غاية للحكم الواقعي، ولكن يحتاج إلى التصرف في ظاهره، وذلك بجعل العلم في الغاية كاشفاً وطريقاً إلى ما هو الغاية في الواقع وهي عروض النجاسة والحرمة، أي: «كلّ شيء بعنوانه الأولي طاهر حتى تعرضه النجاسة، وكلّ شيء بعنوانه الأولي حلالٌ حتى تعرضه الحرمة»، ولكن هذا التصرف بلا موجب ولا يمكن التصرف بظاهر النصوص بلا قرينة.
وقد اتضح ممّا ذكرنا: أنّ «الاحتمال الرابع» من الاحتمالات المتقدمة في غير محله، وكذا «الاحتمال السادس» لِما عرفت من عدم إمكان جعل كلٍّ من الحكم الواقعي والظاهري في إنشاءٍ واحد، كما لا يمكن حمل النصوص المتقدمة «الاحتمال الخامس» وهو أن يكون المراد منها الاستصحاب فقط، لأنّ مفاد الاستصحاب هو الحكم باستمرار ما علم حدوثه وشكّ في بقائه والروايات لا يستفاد منها ذلك.
إن قلت: أنّ كلمة «حتّى» تدلّ على استمرار حكم ما قبلها إلى ما بعدها فيكون مفادها هو أنّ كلّ شيء طاهرٌ أو حلالٌ وتستمرّ طهارته وحلّيّته ظاهراً إلى أن يعلم بالقذارة والحرمة، فالغاية تدلّ على استمرار الحكم السابق إلى أن يعلم بالخلاف.
قلت: إنّ جعل الغاية جملة مستقلة بتقدير كلمة: «ويستمر طهارته أو حرمته ظاهرا» لا دليل عليه ويحتاج إلى تصرّف في الظاهر، وكلمة «حتّى» لا تدلّ على ذلك، فإنّ أقصى ما تدلّ عليه كلمة «حتّى» هو استمرار تلك الطهارة والحلية المذكورة في صدر الرواية، وأما جعل تلك الطهارة والحلية مفروضة الوجود والحكم باستمرارها إلى زمان العلم بالخلاف كما هو معنى الاستصحاب فهو لا يستفاد من كلمة «حتّى».
وممّا ذكرنا أيضاً: يتضح عدم إمكان حمل النصوص المتقدمة على «الاحتمال الأول والثاني» اللذَيْن ذهب إليهما صاحب الكفاية (رحمه الله) في المتن والحاشية على الرسائل، وعدم إمكان حملها أيضاً على «الاحتمال السابع» الذي ذهب إليه صاحب الفصول (رحمه الله).
وحاصل الكلام: أنه لا يوجد عندنا إلا حكمٌ واحدٌ، وأنّ الغاية لا يستفاد منها حكم، بل هي لا تدلّ إلا على تحديد المغيّا ورفع الإبهام عنه من حيث طول الأمد وقصره، فالمحدد إن كان حكماً واقعياً فهو على واقعيته مستمرٌ إلى وجود الغاية، وإن كان ظاهرياً فهو على ظاهريته مستمرٌ إلى وجود الغاية، فالكلام المشتمل على الغاية يدل على وجود حكم واقعي مستمرٌ إلى وجود الغاية أو ظاهري كذلك، ويمتنع أن يكون المغَيّا مفيداً لحكم واقعي والغاية مفيدة لحكمٍ ظاهري، فلا يمكن استفادة الحكمين معاً، فضلاً عن استفادة الاستصحاب معهما.
وعليه: فقد عرفت أنّ الذيل قرينة على إرادة الحكم الظاهري، فتكون تلك النصوص دالّة على قاعدة الطهارة الظاهرية والحلية كذلك، وتكون أجنبية عن الاستصحاب. والله العالِم.
هذا تمام الكلام في الإستدلال على حجية الاستصحاب، وقد عرفت بما لا مزيد عليه أنّ صحاح زرارة المتقدمة دلت على حجيته.
أما الكلام في الشكّ في وجود الرافع والشكّ في رافعية الموجود، والتفصيل بين الحكم الوضعي والحكم التكليفي، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.