الدرس 4 _ الاصول العملية: البراءة 2
فكان همّ الإخباري إثبات اندراج مورد الشبهة تحت قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل، بدعوى وجود البيان على التكليف المشتبه من جهة العلم الاجمالي، أو من جهة أخبار الاحتياط بزعم صلاحيتها للبيانية على التكليف الواقعي. كما أنّ همّ الأصولي إنكار هذه الجهة، وإثبات عدم صلاحية أخبار الاحتياط للبيانية وللمنجزية للتكليف المشكوك، إمّا بنفسها، أو من جهة معارضتها بما دلّ على الترخيص في ارتكاب المشتبه الموجب لحملها على الاستحباب أو الإرشاد.
[الاستدلال على البراءة بالأدلّة الأربعة]
الدليل الأوّل: الكتاب العزيز، آية البعث.
*قال صاحب الكفاية: «وقد استدل على ذلك بالأدلّة الأربعة: أمّا الكتاب فبآيات أظهرها قوله تعالى: « وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾...*
أقول: اختلف الأعلام في دلالة هذه الآية الشريفة على البراءة، فقد ذهب جماعة منهم إلى أنّها أجنبية عن ذلك، فإنّ مفادها الإخبار بنفي العذاب الدنيوي عن الأمم السابقة قبل إتمام الحجّة عليهم ببعث الرسول الظاهري، فلا دلالة لها على حكم مشتبه الحكم من حيث إنّه مشتبه. وبالمقابل ذهب أكثر الأعلام إلى دلالتها على البراءة.
وقد أفاد الشيخ الأنصاري (رحمه الله) في تقريب التمسك بها ما حاصله: إنّ بعث الرسول، إمّا كناية عن بيان التكليف ووضوحه للمكلف ولو كان ذلك بالعقل -أي الرسول الباطني- وإنّما كنّى عنه ببعث الرسول بلحاظ كون البيان بسببه غالبا، كما يكنّى عن دخول الوقت بأذان المؤذن، فيمثل قولك: لا أبرح من هذا المكان حتى يؤذّن المؤذّن بلحاظ كون معرفته في الأغلب بأذان المؤذن. وبالجملة، فإنّ بعث الرسول إمّا كناية عن ذلك وإمّا عبارة عن البيان الذي يأتي به الرسول الظاهري، وحينئذٍ يخصّص عموم الآية بغير المستقلات العقلية، فإنّ ما استقل به العقل من حسن العدل، وحسن ردّ الوديعة، ونحوهما، يستحق الإنسان العذاب على مخالفتهما، ولو لم يبعث الرسول الظاهري، أو بعث ولم يبيّن، وحينئذٍ إمّا يخصص عموم الآية الشريفة، أو يلتزم في المستقلات العقلية بعدم استحقاق العقاب على المخالفة حتى يبعث الرسول الظاهري ويبيّن. وعليه، فيبقى عموم الآية الشريفة سالماً عن التخصيص.
والخلاصة: إنّ الآية الشريفة تدلّ على نفي العذاب قبل البيان.
وبالجملة، فإنّ الشيخ الأنصاري وإن أفاد في تقريب التمسّك بها ما ذكرناه، إلاّ أنّه نفسه اختار الرأي الأوّل حيث قال: «وفيه أن ظاهره الإخبار بوقوع التعذيب سابقاً بعد البعث، فالمراد بالعذاب هو الدنيوي الواقع في الأمم السابقة...». (انتهى كلامه).
والإنصاف: أنّ الآية الشريفة دالّة على البراءة، لأنّ نفي العذاب الدنيوي عند عدم إتمام الحجّة يدلّ بالأولوية القطعية على نفي العذاب الأخروي، إذ العذاب الدنيوي أهون بكثير من العذاب الأخروي لكونه منقطعاً، بخلاف العذاب الأخروي، فإنّه مستمرّ وأبديّ.
ثمّ إنّ صاحب الكفاية: أشكل على الاستدلال بها للبراءة، بأنّ المنفي في الآية الشريفة -هو فعلية العقاب، لا استحقاقه ونفي الفعلية- لا يدل على نفي الاستحقاق، مع أنّ محلّ الكلام مع الإخباري هو نفي الاستحقاق.
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «وفيه أن نفي التعذيب قبل إتمام الحجّة ببعث الرسل لعله كان منّة منه تعالى على عباده مع استحقاقهم لذلك...». (انتهى كلامه). وفيه: أنّ قوله تعالى: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ﴾ مستعملة في أنّ الفعل غير لائق به تعالى، ولا يناسب صدوره منه، وكذا قوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون﴾. فإنّ قوله تعالى: ﴿َمَا كُنَّا سَارِقِين﴾، ﴿وَمَا كَانَ﴾، ومثل هذا التعبير في القرآن الكريم، يراد منه، أنّ الفعل غير لائق به، ولا يناسبه. وبالجملة، فإنّ قوله تعالى: ﴿َمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾، يراد منه، أنّ التعذيب قبل البيان لا يليق به تعالى، ولا يناسب حكمته وعدله، وبذلك يدلّ على عدم كون العبد مستحقاً للعذاب، إذ مع فرض استحقاق العبد له، لا وجه لعدم كونه لائقاً به تعالى، بل عدم لياقته به إنّما هو لعدم استحقاق العبد له. وبما ذكرناه تصبح الآية الشريفة دالّة على البراءة.