الدرس225 _مكان المصلي 18
(1) المشهور بين الأعلام كراهة الفريضة في جوف الكعبة.
ووجه الصحّة: أنّ القبلة هي الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه من تخوم الأرض إلى عنان السماء، لا البناء.
ومن هنا لو زال البناء لا سمح الله صلّى إلى جهتها.
وعليه، فلو صلّى في جوفها استقبل أحد جدرانها.
هذا، وعن الشّيخ R في الخلاف، والقاضي R في المهذب: المنع عنها اختياراً.
وقد يُستدلّ للمنع بعدّة أدلّة:
منها: الإجماع المدَّعى في الخِلاف.
وفيه مضافاً إلى ما عرفت في أكثر من مناسبة من أنّ الإجماع المنقول بخبر الواحد غير حجّة : أنّه موهون بمخالفة المشهور، حتّى الحاكي له في بعض كتبه الأُخَر، كالمبسوط.
ومنها: أنّ القبلة جميع الكعبة، والمصلّي في وسطها غير مستقبِل جميعها.
وفيه: أنّ القبلة ليست مجموع البناء، بل نفس العرصة، وكلّ جُزء من أجزائها يكون قِبلة.
وعليه، فالمصلّي فيها يكون مستقبلاً للقِبلة.
إن قلت: إنّ المتبادر من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة، واستقبالها في الصّلاة، هو كون الكعبة في جهة مقابلة للمصلّي فيكون خارجاً عنها.
قلت: إنّ إطلاق الأمر بذلك جارٍ مجرى الغالب، فلا يتبادر إرادته إلاّ ممَّن كان خارجاً من الكعبة، وأمّا مَنْ كان فيها فينصرف عنه هذا الخطاب، ويكون مأموراً باستقبال جُزء منها، ولو من فضائها.
ومن هنا لو صلّى مثلاً عند الباب مستقبلاً خارج الكعبة على وجهٍ لم يكن بين يديه، ولو في حال الرّجوع أو السُّجود شيء من فضائها لم يجز ذلك، وعليه الإعادة لأنّه ليس مستقبلاً للقبلة.
ومنها: صحيحة محمّد بن مسلم عن أحدهما J «قال: لا تصلّ المكتوبة في الكعبة»[i]f545.
ومنها: صحيحة معاوية بن عمّار عن أبي عبد الله N «قال: لا تصلّ المكتوبة في جوف الكعبة، فإنّ النبي C لم يدخل الكعبة في حجّ، ولا عمرة، ولكنّه دخلها في الفتح فتح مكة وصلّى ركعتين بين العمودَيْن، ومعه أسامة بن زيد»[ii]f546.
وفيه: أنّ الصحيحتين معارضتان بموثّق يونس بن يعقوب «قال: قلتُ لأبي عبد الله N حضرت الصّلاة المكتوبة، وأنا في الكعبة، أفأصلّي فيها؟ قال: صلّ»[iii]f547.
ومقتضى الجمع العرفي: حَمْل الصحيحتين على الكراهة.
وأمّا ما عن الشّيخ R من حمل الموثّقة على الضّرورة: فهو بعيد جدّاً، لظهورِ استفهام السّائل في إرادته إيقاع الصّلاة اختياراً فيها في مقابل الصّلاة خارجها فكأنه «قال: أفأصلّي فيها، أو أخرج للصّلاة» فكيف يصحّ حينئذٍ حَمْل إطلاق الجواب على الضرورة؟
ثمّ إنّ هناك روايتَيْن أيضاً لمحمدِ بن مسلم:
الأُولى: وهي صحيحة عن أحدهما J «قال: لا تصلح صلاة المكتوبة في جوف الكعبة»[iv]f548.
الثانية: عن أحدهما J «قال: تصلح الصلاة المكتوبة في جوف الكعبة»[v]f549، قال صاحب الوسائل: «لفظة (لا) هنا غير موجودة في النسخة التي قُوبلت بخطّ الشّيخ، وهي موجودة في بعض النسخ...».
أقول: هذه الرّواية ضعيفة سنداً، لأنّ إسناد الشيخ في التهذيب إلى الطّاطري فيه أحمد بن عمر بن كيسبة، وهو غير مذكور في الرّجال.
أضف إلى ذلك: أنّ الموجود في التهذيب رواية الطّاطري عن أبي جميلة عن علاء عن محمّد بن مسلم، وفي الوسائل روايته عن ابن جبلة عن علاء عن محمّد بن مسلم، فلم يُحرز أنّ الموجود هو ابن جبلة الثقة.
ثمّ إنّ الرّواية إن كانت بدون لفظة (لا) فتكون صريحةً في الجواز، وإن كانت معها فقد عرفت في أكثر من مناسبة أنّ لفظة (لا تصلح) ظاهرة في الكراهة، وعلى فرض ظهورها في المنع فتكون هاتان الروايتان من الرّوايات المانعة المحمولة على الكراهة، جمعاً بينها وبين موثّقة يونس المتقدّمة.
ثمّ إنّه يُحتمل أن تكون الرّوايات الثلاث المرويّة عن محمّد بن مسلم متحدةً، وقد حصل الاختلاف في نقلها من الرّواة بلحاظ النقل باللفظ، أو بالمعنى، أو حصل ذلك من النساخ.
وبالجملة، فعلى تقدير الاتّحاد فهي مجملة، مردّد أمرها بين أن يكون بلفظ (لا يصلي) الظاهر في الحرمة، أو (لا يصلح) الظاهر في الكراهة، فلا تنهض حجةً لإثبات أزيد من الكراهة.
وعلى تقدير تعدّد الرّوايات فقد عرفت أنّ كلمة (لا يصلح) في الروايتين الأخيرتين ظاهرة في الكراهة؛ مضافاً إلى ضعف الثانية سنداً.
والخلاصة إلى هنا: أنّ ما ذهب إليه المشهور من الجواز على كراهةٍ هو الصحيح، والله العالم.
(1) قد عرفت أنّه في حال الاختيار تصحّ الفريضة في جوف الكعبة على كراهة، وأمّا في حال الاضطرار فلا شبهة في جوازها من دون كراهة، فإنّ الصّلاة لا تسقط بحال.
نعم، روى الشّيخ الكليني R بعد روايته لصحيحة محمد بن مسلم الدّالة على المنع، قال: «ورُوي في حديثٍ آخر: يصلّي في أربع جوانبها إذا اضطرّ إلى ذلك»[vi]f550.
قال المصنّف R في الذكرى: «هذا إشارة إلى أنّ القبلة إنّما هي في جميع الكعبة، فعند الضرورة إذا صلّى في الأربع فكأنّه استقبل جميع الكعبة».
أقول مضافاً إلى أنّ الرّواية ضعيفة بالإرسال، فقد عرفت أنّ القبلة هي الفضاء الذي وقعت الكعبة فيه.
وبالجملة، فإنّها ليست مجموع البناء، بل نفس العرصة.
وعليه، فلا موقع للإشارة حينئذٍ.
والخلاصة إلى هنا: أنّه تجوز الصّلاة الواجبة في جوف الكعبة اختياراً على كراهة.
ولكن قد يُؤيّد المنع لا لضرورة: خبر محمّد بن عبد الله بن مروان «قال: رأيت يونس بمنى يسأل أبا الحسن N عن الرّجل إذا حضرته صلاة الفريضة، وهو في الكعبة، فلم يمكنه الخروج من الكعبة، فقال: استلقي على قفاه، وصلّى إيماءً، وذكر قول الله عزوجل : « فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ﴾ ]البقرة: 115[»[vii]f551.
وفيه أوّلاً: أنّ الرّواية ضعيفة، فإنّ أحمد بن الحسين الواقع في السّند إن كان هو ابن سعيد بن عثمان فهو مجهول.
وأيضاً طريق الشيخ R إليه ضعيف بجهالة أحمد بن محمّد بن موسى، وإن كان هو ابن عبد الملك، فهو وإن كان ثقة كما أنّ طريق الشيخ إليه معتبر، لأنّ ابن الزّبير القرشي الواقع في طريقه إليه من المعاريف إلاّ أن الرواية ضعيفة، لعدم تمييز أحمد بن محمّد بن سعيد بن عثمان، عن أحمد بن الحسين بن عبد الملك.
مضافاً إلى أنّ الرّواي وهو محمّد بن عبد الله بن مروان مجهول، هذا أوّلاً.
وثانياً: أنّه لم يُنقلِ القول بمضمونها عن أحدٍ من الأعلام، فحتّى لو كانت الرّواية صحيحةً فيجب ردّ علمها إلى أهلها.
(1) المعروف بين الأعلام كراهة صلاة الفريضة على سطح الكعبة الشريفة، ولم يخالف في جوازها اختياراً إلاّ القاضي.
وقد يُستدلّ له بحديث المناهي عن الصّادق عن آبائه S «قال: نهى رسول الله C عن الصّلاة على ظهر الكعبة»[viii]f552.
وفيه أوّلاً: أنّه ضعيف بجهالة الحسين بن زيد، وشعيب بن واقد، كما أنّ إسناد الصّدوق R إلى شعيب فيه حمزة بن محمّد العلوي، وهو مهمل، وعبد العزيز بن محمّد بن عيسى الأبهري، وهو مجهول.
وثانياً: أنّه متروك عند الأصحاب، فلا يصح العمل به.
وقد يُستدلّ لعدم صحّة صلاة الفريضة على ظهر الكعبة: بما استدلّ به على عدم الصحّة في جوفها من أنّ المتبادر من الأمر بالتوجّه إلى الكعبة، واستقبالها في الصّلاة هو كون الكعبة في جهة مقابلة للمصلّي، فيكون خارجاً عنها.
وفيه: أنّ إطلاق الأمر بذلك جارٍ مجرى الغالب، فلا يتبادر إرادته إلاّ ممّن كان خارجاً عنها.
وأمّا مَنْ كان على سطحها فينصرف عنه هذا الإطلاق، ويكون مأموراً باستقبالِ جُزءٍ منها، ولو من فضائها.
هذا، وعن الشّيخ الصدوق R في الفقيه، والشّيخ R في الخلاف والنّهاية، والقاضي R في المهذّب، أنّه يصلي على سطحها مُسْتلقياً على ظهره، ويصلّي إلى البيت المعمور.
واحتجّ الشّيخ R في الخلاف: بالإجماع.
وفيه أوّلاً: أنّه ليس بحجّة، كما عرفت في أكثر من مناسبة.
وثانياً مع قطع النظر عن ذلك : فإنّه موهون بمخالفة المشهور حتّى الشيخ R في مبسوطه.
واحتجّ أيضاً برواية عبد السّلام بن صالح عن الرّضا N «في الذي تُدْركه الصّلاة، وهو فوق الكعبة، قال: إن قام لم يكن له قِبلة، ولكن يستلقي على قفاه، ويفتح عينيه إلى السّماء، ويعقد بقلبه القبلة التي في السّماء البيت المعمور، ويقرأ، فإذا أراد أن يركع غمّض عينيه، وإذا أراد أن يرفع رأسه من الركوع فتح عينيه، والسُّجود على نحو ذلك»[ix]f553.
وفيه: أنّه ضعيف، لاشتراك إسحاق بن محمّد، الواقع في السند، بين الثقة والضعيف، ولا مميِّز، خصوصاً مع إعراض المشهور عنها، وإعراض الصّدوق R، والشّيخ R في باقي كتبهما.
وعليه، فلا يمكن الاعتماد عليها في تخصيص الأدلّة القطعيّة على وجوب القيام والرّكوع والسُّجود والاستقبال، فما ذهب إليه المشهور هو الأقوى.
ولكن لا يحتاج أن ينصب بين يديه شيئاً منها حال الصّلاة كأن يجعل بين يديه سترة من نفس البناء، أو غيره وذلك لما عرفت سابقاً من أنّ القبلة هي الفضاء إلى السّماء، والله العالم.
[i] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح5.
[ii] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح6.
[iii] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح2.
[iv] الوسائل باب 1 من أبواب مكان المصلّي ح4.
[v] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح1.
[vi] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح4.
[vii] الوسائل باب 25 من أبواب مكان المصلّي ح3.
[viii] الوسائل باب26 من أبواب مكان المصلّي ح5.
[ix] الوسائل باب 26 من أبواب مكان المصلّي ح5.