الدرس 133_التكسّب الحرام وأقسامه (128). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 133 / الأربعاء: 27-كانون الثاني-2021
وأمَّا أدنى مراتب العبادة، فهي الإتيان بها بقَصْد الثَّواب، ودَفْع العقاب الدُّنيويِّ، وما بينها متوسِّطات، وكلّها عبادة، وإن كان أكثر الدَّواعي هي المصلحة الدُّنيوية وإن كان الدَّاعي الأخير هو التَّقرُّب إلى الله تعالى.
وتوضيحه: أنَّ المراد بالتَّقرُّب إلى الله تعالى إنَّما هو موافقة إرادة الله تعالى، أو الإتيان بالعمل امتثالاً لأمره أو موافقة لطاعته، أو انقياداً لحكمه، أو إجابة لدعوته، أو أداءً لشكره، أو تعظيماً لجلاله.
ولا إشكال عند الأعلام في صحَّة العمل إذا أتى به بقَصْد أحد الأمور المتقدِّمة؛ إذ يصدق على الفاعل أنَّه أتى به ﷲ سبحانه وتعالى، وبذلك تتحقَّق الطَّاعة المطلوبة.
وأمَّا لو أتى به بقَصْد حصول الثَّواب الأخروي، أو الدُّنيوي، أو هما معاً، أو بقصد دَفْع العقاب الأُخروي أو الدُّنيوي، أو هما معاً، ونحو ذلك مِنَ الأغراض الدُّنيوية والأُخرويَّة، فهل يصحُّ العمل، ويكون بذلك عبادةً وطاعةَ.
فالمشهور بين الأعلام هو الصِّحَّة، منهم الشَّهيد (رحمه الله) في الذِّكرى، وصاحب المدارك، وصاحب الحدائق، والنراقي في مستنده، والشَّهيد الثَّاني في روض الجنان (عليه السلام)، وغيرهم في غيرها.
وفي المقابل، ذهب جماعة من الأعلام إلى البطلان، قال الشَّهيد الثاني (رحمه الله) في روض الجنان: «ونقل الشَّهيد (رحمه الله) في قواعده عن الأصحاب بطلان العبادة بهاتين الغايتين؛ أي طلب الثواب ودفع العقاب وبه قطع السَّيِّد رضيِّ الدِّين ابن طاوُوس (رحمه الله)، محتجّاً بأنَّ قاصد ذلك إنَّما قصد الرَّشوة والبِرطيل، ولم يقصد وجه الربِّ الجليل، وهو دالٌّ على أنَّ عمله سقيم وأنَّه عبد لئيم، واختار فيها وفي الذِّكرى الصِّحَّة، محتجّاً بأنّ قصد الثَّواب لا يخرج عنِ ابتغاء الله بالعمل؛ لأنَّ الثَّواب لمَّا كان من عند الله فمُبتغيه مُبتغٍ وجهَ الله، وبأنّ الغرض بها الله في الجملة...».
أقول: هذا هو الصَّحيح، وقدِ استدلَّ مَنْ ذهب إلى الصِّحَّة بالكتاب المجيد، والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة:
أمَّا الكتاب العزيز، فبعدَّة مِنَ الآيات الشَّريفة: منها قوله تعالى: «يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا ﴾ ]السجدة: 16[، وقوله تعالى: «وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ ]الأنبياء: 90[»، ومنها قوله تعالى: «إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلاَ شُكُورًا )إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا +﴾ ]الإنسان: 911[، وكذا غيرها مِنَ الآيات الشَّريفة.
وأمَّا السُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة: فبعدَّة مِنَ الرِّوايات:
منها: حسنة هارون بن خارجة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: إِنَّ الْعِبَادَةَ (العبّاد) ثَلَاثَةٌ: قَوْمٌ عَبَدُوا الله عزّ وجلّخَوْفاً، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْعَبِيدِ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا الله تَبَارَكَ وَتَعَالى طَلَبَ الثَّوَابِ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأُجَرَاءِ؛ وَقَوْمٌ عَبَدُوا الله عزّ وجلّحُبّاً لَهُ، فَتِلْكَ عِبَادَةُ الْأَحْرَارِ، وَهِيَ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ»[1]f63.
ومنها: صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج «قَالَ: بَعَثَ إِلَيَّ بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ أَبُو إِبْرَاهِيمَ (عليه السلام): هَذَا مَا أَوْصَى بِهِ، وَقَضَى فِي مَالِهِ، عَبْدُ الله عليُّ، ابْتِغَاءَ وَجْهِ الله، لِيُولِجَنِي بِهِ الْجَنَّةَ، وَيَصْرِفَنِي بِهِ عَنِ النَّارِ، وَيَصْرِفَ النَّارَ عَنِّي، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، إنَّ مَا كَانَ لي مِنْ مَالِ بينُبعَ، مِنْ مَالٍ يُعْرَفُ لِي فِيهَا وَمَا حَوْلَهَا صَدَقَةٌ وَرَقِيقَهَا، غَيْرَ أَبِي رَبَاحٍ وَأَبِي نَيْزَرَ وَجُبَيْرٍ عُتَقَاءُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِمْ سَبِيلٌ...»[2]f64.
ولا يخفى وجه الاستدلال بهذه الصَّحيحة؛ إذ لو لم يكن العمل بقصد طلب الثَّواب، ودفع العقاب، صحيحاً، لمَّا صحَّ من أمير المؤمنين (عليه السلام) أن يفعل ذلك، ويعلّمه لغيره.