الدرس 132_التكسّب الحرام وأقسامه (127). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 132 / الثلاثاء: 26-كانون الثاني-2021
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط؛ وغاية ما ثبت مِنَ الأدلَّة أنَّ الإجارة عبارة عن دخول الشَّيء المستأجَر في مُلْك المُسْتأجِر مقابل العِوَض الذي يدخل في مُلْك المُؤجِّر، مع إحراز باقي الشَّرائط.
وأمَّا كون المنفعة لا بدَّ أنْ تكون راجعةً إلى المُسْتأجر، فلا دليل عليه، وإن كان الغالب هو رجوعها إليه، إلاَّ أنَّ هذا لا يجعله شرطاً.
وأمَّا القول: بأنَّ المعاملة بدونه تكون سفهيَّةً، فمع فرض التَّسليم بذلك، فقد عرفت في بعض المباحث المتقدِّمة أنَّه لا دليل على بطلان المعاملة السَّفهيَّة.
نعم، دلّ الدَّليل على بطلان معاملة السَّفيه، وهو كونه محجوراً عَنِ التَّصرف في أمواله، ومِنَ المعلوم أنَّه لا ملازمة بين كون المعاملة سفهيَّةً، وكون أحد الطَّرفَيْن سفيهاً.
وعليه، فلا يكون أكل المال بدون هذا الشَّرط أكلاً للمال بالباطل.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إنَّ إطلاق الأدلَّة يقتضي صحَّة الإجارة، فإنَّ إطلاق قوله تعالى: «أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ ﴾ ]المائدة: 1[، وقوله تعالى: « إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ ﴾ ]النساء: 29[، يشمل هذه المعاملة.
ولكن ذكر الأعلام أنَّ صفة التَّعبديَّة، وكذا صفة الوجوب تنافيان أخذ الأجرة على الواجبات.
وعليه، فلا بدَّ مِنَ التَّكلم حول هذَيْن الأمرَيْن حتَّى نرى ما هو مقتضى الإنصاف في المسألة.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ صفة التَّعبديَّة لو كانت مانعةً من صحَّة الإجارة فلا تختصُّ بالواجبات، بل تشمل المستحبَّات أيضاً.
أمَّا الأمر الأوَّل وهو أنَّ صفة التَّعبديَّة تنافي أَخْذ الأجرة : فقدِ استُدلَّ لذلك بعدَّة أدلَّة، نقتصر على المهمِّ منها:
الأوَّل: أنَّ أَخْذ الأُجْرة ينافي الإتيان بالعمل على وجه التَّقرُّب إلى الله تعالى؛ لأنَّ داعي الإتيان بالعمل في العباديَّة هو التقرب إلى الله تعالى، فإذا أخذ الأجرة على العمل فيكون هو الدَّاعي للإتيان به، وليس قَصْد القربة إلى الله تعالى.
وعليه، فلا يكون هذا العمل عباديّاً.
وبالنتيجة: يكون باطلاً؛ لانتفاء قَصْد التَّقرُّب إلى الله تعالى الذي هو شَرْط في صحَّة العبادة.
والخلاصة: أنَّ الدَّاعي هنا ينقلب من كونه ﷲ سبحانه وتعالى إلى أَخْذه الأجرة.
وفيه: أنَّ أَخْذ الأجرة من قبيل الدَّاعي إلى الدَّاعي.
وتوضيحه: أنَّ الأجير لمَّا كان يستطيع أن يأخذ الأجرة مِنَ المستأجر، ولو بدون أن يأتي بالعمل الكامل، أو بدون أن يأتي به بقَصْد القربة، حيث لا يطلع عليه المُسْتأجر.
ولمَّا كان الأجير يرى أنَّه لا يستحقُّ الأجرة شرعاً إلاَّ بالإتيان بالعمل الصَّحيح المتوقِّف على قَصْد القربة، فلابدَّ حينئذٍ من أن يقصد القربة في عمله، وإن كان منشأ ذلك هو أَخْذ الأجرة.
ومن هنا، قلنا: إنَّ أخذ الأجرة من قبيل الدَّاعي إلى الدَّاعي.
والخلاصة: أنَّ الدَّليل الأوَّل ليس تامّاً.
الدَّليل الثَّاني: ما ذكره جماعة مِنَ الأعلام من أنَّه يعتبر في صحَّة العبادة أن تكون جميع الدَّواعي الطَّولية قربة إلى الله تعالى، فلا يكفي في صحَّتها أن يكون الدَّاعي الأخير قربيّاً إذا كان ما قبله غير قربيٍّ، بل لا بدَّ أن تكون جميع الدَّواعي من أوَّلها إلى آخرهالله سبحانه وتعالى، فإذا وُجِد داعٍ غير قربيٍّ خرج العمل عن كونه عباديّاً، وبما أنَّ بعض الدَّواعي هنا غير قربيٍّ، وهو أَخْذ الأُجْرة، فلا يصحُّ العمل حينئذٍ.
وفيه: أنَّ هذا الكلام في غير محلِّه؛ إذ يندر أن تكون العبادة بجميع دواعيها خالصةً لوجه الله تعالى؛ لأنَّ التَّقرُّب إلى الله تعالى بامتثال أوامره يختلف باختلاف الأشخاص العابدين والمتقرِّبين، فإنَّ من أعلى مراتب الطَّاعة والعبادة الإتيان بالعمل حُبّالله تعالى، أو لكونه أهلاً للعبادة والطَّاعة، بحيث لا يقصد المطيع بعمله شيئاً مِنَ الفوائد والأغراض العائدة إليه، وهذه المرتبة مِنَ العبادة إنَّما هي لأهلها، وهم المعصومون S.
نعم، هي ممكنة في حقِّ غيرهم، وأمَّا دعوى وقوعها فعهدتها على مدَّعيها، وكيف يمكن أن يُطْلَب من الإنسان الحريص على جَمْع المال وادَّخاره، والضَّنِين به، دَفْعَ زكاة ماله، لا سيَّما إذا كان كثيراً، بعنوان كون المولى أهلاً للطَّاعة والعبادة، لا بقصد تلك الأغراض العائدة إليه، بل تكليفه بذلك يشبه التَّكليف بالمُحَال.
وبالجملة، إنَّ العبادة بعنوان كون المعبود أهلاً لها هي من أعلى مراتبها.
وقد حُكِي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنَّه قال: «ما عبدتك خوفاً من نارك، ولا طَمَعاً في جنَّتك، ولكن وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك»[1]f62.
ولا يخفى أنَّ هذه الرِّواية ضعيفة، بل من روايات العامَّة، وليست موجودةً في مصادرنا، وإنَّما نقلها عن العامَّة العلاَّمة المجلسيُّ (رحمه الله) في البحار ومرآة العقول، ونَقْلها أيضاً صاحب الوافي (رحمه الله).
[1] رواها العلاَّمة المجلسيُّ في مرآة العقول: ج2/ص101؛ وفي البحار: ج15، كتاب الخلق، ص82؛ ورواها صاحب الوافي مرسلاً، في شرح الحديث الأوَّل من باب 18 من أبواب جنود الإيمان، مِنَ الفصل الرَّابع.