الدرس 83 _زكاة الغلات الأربعة 21
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولوِ اختلف الثَّمار والزُّروع في الجودة قُسِّط(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّه إذا تعدَّد أنواع التَّمر والزرَّع وكان بعضها جيِّداً أو أجود، وبعضها الآخر رديئاً أو أردأ فيُؤخذ من كلِّ نوعٍ بحصَّته.
قال العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة: «الثَّمرة إن كانت كلّها جنساً واحداً أُخِذ منه سواء كان جيِّداً، كالبرديّ وهو أجود نخل بالحجاز، أو رديئاً كالجعرور ومصران الفأرة، وعذق ابن حبيق، ولا يُطالب بغيره، ولو تعدَّدت الأنواع أُخِذ من كلِّ نوعٍ بحصَّته لينتفي الضَّرر عن المالك بأخذ الجيِّد، وعن الفقراء بأخذ الرديء، وهو قول عامَّة أهل العلم، وقال مالك والشَّافعيّ: إذا تعدَّدت الأنواع أُخِذ من الوسط...».
قلتُ: إنَّ الأخذ من كلِّ نوعٍ بحصَّته إنَّما يتمُّ على القول: بأنَّ الزَّكاة متعلِّقة بالعين على نحو الإشاعة والشَّركة الحقيقيَّة، بأن تكون كلُّ ثمرةٍ أو كلِّ حبَّةٍ من حنطة مشتركة بين المالك والفقير بنسبة الواحد إلى العشرة، كما هو المتبادر من قوله (عليه السلام): «فيما سقته السَّماء العُشْر».
وأمَّا بناءً على أنَّ الزَّكاة متعلِّقة بالعين على نحو الكُلِّيّ في المعيَّن، كما هو مختار بعض الأعلام، ومنهم صاحب العروة، أو على نحو الشَّركة في الماليَّة كما هو مقتضى الإنصاف عندنا ، فالأقوى: حينئذٍ الاجتزاء بمطلق الجيِّد، وإن كان النِّصاب مشتملاً على الأجود؛ لانطباق الطَّبيعة المأمور بها عليه بعد كونه مصداقاً لمسمَّى الحِنْطة أو التَّمر ونحوهما، وهذا لا كلام فيه.
وإنَّما الكلام في جواز دفع الرَّديء عنِ الجيِّد والأجود.
ذهب جماعة من الأعلام، منهم صاحب الحدائق وصاحب الجواهر (رحمهما الله) إلى عدم الجواز، قال صاحب الجواهر: «نعم، لا يدفع خصوص الرديّ منه؛ لقوله تعالى: « وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ ﴾ ]البقرة: 267[، وما دلَّ على عدم خرص الجعرور والمعافارة لرداءة تمرهما، بل ورد أنهم كانوا يأتون بهما إلى النَّبيّ (ص) زكاة عمَّا عندهم من التَّمر الجيِّد، وقد وقع ذلك منهم مكرّراً من غير حياء من أحد منهم، فأنزل الله تعالى الآية، ونهى رسول الله (ص) عن خرصهما...».
أقول: قدِ استُدلَّ لعدم جواز دفع الرَّديء عن الجيِّد والأجود بدليلَيْن:
الأوَّل:﴿ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾.
والإنصاف: أنَّ هذه الآية الشَّريفة في حدِّ نفسها ليست ظاهرةً في ذلك؛ لاحتمال كون المراد من الخبيث هو الحرام، فإنَّه يُقابل الطَّيب والمراد منه الحلال، كما في قوله تعالى: « وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ﴾ ]الأعراف: 157[، فالآية الشَّريفة مجملة من هذه الجهة، والاستدلال متوقِّف على الظُّهور.
الثَّاني: الرِّوايات الكثيرة:
منها: رواية أبي بصير المتقدِّمة عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في قول الله (عز وجل): «ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ ﴾ ]البقرة: 267[ قال: كان رسول الله (ص) إذا أمر بالنَّخل أن يُزكَّى يجيء قوم بألوان من التَّمر وهو من أردأ التَّمر يؤدُّونه من زكاتهم تمراً، يُقال له: الجعرور والمعافارة قليلة اللّحاء عظيمة النَّوى، وكان بعضهم يجيء بها عن التَّمر الجيِّد، فقال رسول الله (ص): لا تخرصوا هاتَيْن التَّمرتَيْن، ولا تجيؤوا منهما بشيء، وفي ذلك نزل: « وَلاَ تَيَمَّمُواْ الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ وَلَسْتُم بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ ﴾ ]البقرة: 267[، والإِغماض أن يأخذ هاتَيْن التَّمرتَيْن»([1]).
وكذا غيرها من الرِّوايات التي ذكرناها سابقاً عند الاستدلال بها لجواز الخرص.
وقد يُقال: إنَّ هذه الرِّوايات رافعة لإجمال الآية الشَّريفة، حيث طبقتها على عدم جواز إعطاء الرَّديء من التَّمر عن الجيِّد.
وفيه أوَّلاً: أنَّ هذه الرِّوايات كلّها ضعيفة السَّند، كما عرفت سابقاً.
ومنها: رواية أبي بصير التي ذكرناها، وهي ضعيفة بعدم وثاقة معلَّى بن محمَّد.
وثانياً: أنَّ هذه الرِّوايات مختصَّة بعدم جواز إعطاء أردأ أسماء التَّمر، وهو الجعرور والمعافارة، ولعلَّه لعدم استعمالهما في الأكل غالباً، بل لا يعدُّ هذان الصِّنفان من النِّصاب، ولهذا نهى النَّبيُّ (ص) عن خرصهما.
وكلامنا في الرَّديء من التَّمر الذي يُؤكل عادةً ويعدُّ من النِّصاب ويجوز خرصه، ولا دليل على مَنْع إعطاء هذا الرَّديء عن الجيِّد والأجود.
بل الأقوى: هو جواز إعطائه؛ لانطباق الطَّبيعة المأمور بها عليه، فإنَّه يصدق عليه أنَّه تمرٌ أو حنطةٌ أو شعيرٌ أو زبيبٌ، ولا يُوجد ما يدلُّ على إعطاء خصوص الجيِّد أو الأجود، وإن كان هو أحوط استحباباً، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: لو أخذ العنب عن الزَّبيب أو الرَّطب عن التَّمر رجع بالنَّقيصة عند الجفاف(1)
(1) يقع الكلام في ثلاثة أمور:
الأوَّل: هل يُجزئ أخذ الرُّطب عن التَّمر، والعنب عن الزَّبيب، أم لا؟
الثَّاني: هل يُجزئ أخذ العنب عن العنب، وأخذ الرُّطب عن الرُّطب، أم لا؟
الثَّالث: لو أخذ السَّاعي الرُّطب أو العنب بدون إذن صاحبه أو مع إذنه، وبقيا عنده إلى أن صارا تمراً وزبيباً، وأراد المالك دفعهما عمَّا عليه، فهل يصحُّ ذلك؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام أنَّه لا يُجزئ أخذ الرُّطب عن التَّمر، ولا العنب عن الزَّبيب، لا لنقصان ذلك عند الجفاف، بل لعدم كونه من أفراد المأمور به، فلا يجزئ دَفْع ذلك فريضة.
نعم، يجوز دَفْعه قيمةً، بناءً على جواز دفع القيمة من غير النَّقدَيْن كما هو الصَّحيح عندنا ولا رجوع فيه حينئذٍ، وإن نقص عند الجفاف.
واستقرب العلاَّمة (رحمه الله) في المنتهى: «إجزاء الرُّطب عن التَّمر إذا أُخرِج منه ما لو جفَّ لكان بقدر الواجب؛ لتسمية الرُّطب تمراً في اللُّغة...».
ويرد عليه: أنَّ الرُّطب لغةً غير التَّمر، والإطلاق أعمُّ من الحقيقة.
ثمَّ إنَّه لو سلَّمنا ذلك لكان يلزم الاجتزاء به وإن لم يبلغ مقدار الفريضة عند الجفاف؛ لصدق كونه تمراً عند الأَخْذ، مع أنَّه لم يذهب أحد من الأعلام إلى ذلك.
([1]) الوسائل باب 19 من أبواب زكاة الغلاَّت ح1.