الدرس 104 _اصناف المستحقين للزكاة 5
ومنها: رواية أبي بصير «قَاْل: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجلٍ له ثمانمائة درهم، وهو رجلٌ خَفَّاف وله عِيال كثير، أله أن يأخذ من الزَّكاة؟ فَقَاْل: يا أبا محمَّد، أيربح في دراهمِه ما يقوت به عياله ويفضل؟ قَاْل: نعم، قال: كم يفضل؟ قال: لا أدري، قال: إن كان يفضل عَنِ القوت مقدار نصف القوت فلا يأخذ الزَّكاة، وإن كان أقلّ من نصف القوت أخذ الزَّكاة، قَاْل: قُلْتُ: فعليه في ماله زكاةٌ تلزمه؟ قَاْل: بلى، قَاْل: قلتُ: كيف يَصْنع؟ قَاْل: يُوسِّع بها على عياله في طعامهم وكسوتهم، ويُبقي منها شيئاً يناوله غيرهم، وما أخذ مِنَ الزَّكاة فَضَّه على عياله حتَّى يلحقهم بالنَّاس»([1]).
ولكنَّ هذه الرِّواية بظاهرها مخالفةٌ لاتِّفاق الأعلام، وموثَّقة سماعة المتقدِّمة.
اللَّهمّ إلاَّ أن يكون اعتبار الأقل من نصف القوت لأجل بعض المخارج غير المعلومة الاتفاقيَّة الطَّارئة في أثناء الحَوْل.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ الزَّكاة التي أثبتها في ماله هي زكاة التِّجارة المستحبَّة التي لا محذور في الأمر بصرفها في التَّوسعة على عياله، وإيصال شيءٍ منها إلى غيرهم.
ولكنَّ الذي يُهوِّن الخطب: أنها ضعيفة بطريق الشَّيخ الصدوق (رحمه الله) بعليّ بن أبي حمزة البطائنيّ الواقع في إسناده إلى أبي بصير، كما أنَّها ضعيفة بطريق الشَّيخ الكلينيّ (رحمه الله) ببكر بن صالح وجهالة إسماعيل بن عبد العزيز.
وأمَّا أبوه، فإن كان هو عبد العزيز بن المهتدي فهو ثقة، وإلاَّ فهو مجهول.
ومنها: رواية إسماعيل بن عبد العزيز عن أبيه «قَاْل: دخلتُ أنا وأبو بصير على أبي عبد الله (عليه السلام)، فقال له أبو بصير: إنَّ لنا صديقاً إلى أن قال: وله دار تسوى أربعة آلاف درهم، وله جارية، وله غلام يستقي على الجمل كلَّ يومٍ ما بين الدِّرهمَيْن إلى الأربعة، سوى علف الجمل، وله عيال، أله أن يأخذ مِنَ الزَّكاة؟ قال: نعم، قَاْل: وله هذه العروض؟ فقال: يا أبا محمَّد، فتأمرني أن آمره ببيع داره وهي عزّه ومسقط رأسه؟! أو (ببيع خادمه الذي يقيه) الحرَّ والبرد، ويصون وجهه ووجه عياله؟! أو آمره أن يبيع غلامه وجمله وهو معيشته وقوته؟ بل يأخذ الزَّكاة فهي له حلال، ولا يبيع داره ولا غلامه ولا جمله»([2])، ولكنَّها ضعيفة بجهالة إسماعيل بن عبد العزيز، وأمَّا أبوه، فإن كان هو عبد العزيز بن المهتدي فهو ثقة، وإلا فهو مجهول.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه إذا كان رأس ماله بمجرَّده وافياً بالمؤونة، ولم يكن الرِّبح كافياً، فهو فقير يجوز له أخذ الزَّكاة.
نعم، هذا لا يخلو من إشكال في بعض الأفراد، كما لو كان رأس المال الذي لم يكن ربحه وافياً بمؤونة السَّنة عظيماً، بحيث لو أراد الصَّرف من رأس المال لكفاه سنين عديدة، فهل هذا يعدُّ فقيراً، بحيث يجوز له أخذ الزكاة؟!
ومن هنا لو جعل المناط هو قصور الرِّبح وعدم عدّه غنيّاً عرفاً برأس ماله كان قويّاً، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويُعطى ذو الدَّار والخادم والدَّابّة مع الحاجة أو اعتياده لذلك (1)
(1) كما هو المعروف بين الأعلام، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده فيه ، بل يمكن تحصيل الإجماع عليه...»، وقدِ اتَّضح حكمه ممَّا تقدَّم.
ويدلُّ عليه أيضاً حسنة عمر بن أذينة عن غير واحد عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) «أنَّهما سُئلا عَنِ الرَّجل له دار وخادم أو عبد، أيقبل الزَّكاة؟ قالا: نعم، إنَّ الدَّار والخادم ليسا بمال»([3])، ولا يضرُّها الإرسال؛ لأنَّ التَّعبير بغير واحد معناه جماعة ومن المطمأنّ بوجود الثِّقة في واحد منهم، لا سيَّما أنَّ الرَّاوي مثل عمر بن أذينة.
ومنها: رواية إسماعيل بن عبد العزيز عن أبيه «قال: دخلت أنا وأبو بصير...»، وقد تقدَّمت([4])، وقد عرفت أنَّها ضعيفة بجهالة إسماعيل بن عبد العزيز، وأبيه إن لم يكن هو ابن المهتدي الثقة.
والظَّاهر: أنَّ ذِكْر الدَّار والخادم والدَّابّة إنَّما هو من باب المثال لكلِّ ما يحتاجه من أثاث البيت وثياب التّجمُّل وكتب العلم، وغير ذلك ممَّا تمسُّ الحاجة إليه، ولا يخرج بملك هذه الأمور عن حدِّ الفقر إلى الغنى.
ولو فُقِدت هذه الأمور استثني له أثمانها مع الحاجة إليها، كما لو لم تكن للفقير دارٌ، وكان عنده ثمن الدَّار، وهو بحاجة لهذا الثَّمن لشراء الدَّار فهو فقير يجوز له أخذ الزَّكاة.
وكذا باقي الأمور التي ذكرناها؛ ضرورة صِدْق الحاجة إليها، فتندرج في المؤونة، من غير فرق في ذلك بين الحاجة إليها للعجز أو للعزّ، فالمدار حينئذٍ على عادته أو حاجته، وقد يجتمعان وقد يفترقان.
وقد ذكر بعضهم: «أنَّ الظَّاهر عدم اعتبار العادة في تعدُّد فرس الرُّكوب؛ لعدم نقص قدر الشَّريف في الاقتصار على فرس واحد».
ولكن لا يخفى عليك أنَّ هذا الكلام لا محصّل له.
والخلاصة: أنَّ المدار على ما يُناسب حاله حاجةً وعزّاً في جميع ذلك كَمّاً وكيفاً، ويختلف ذلك باختلاف الأشخاص والأزمنة والأمكنة، والله العالم بحقائق أحكامه.
([1]) الوسائل باب 8 من أبواب المستحقين للزكاة ح4.
([2]) الوسائل باب 9 من أبواب المستحقين للزكاة ح3، وصاحب الوسائل لم ينقل الحديث بكامله، وهو موجود في الكافي.
([3]) الوسائل باب 9 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
([4]) الوسائل باب 9 من أبواب المستحقين للزكاة ح3.