الدرس 39 _زكاة الأنعام 11
تنبيه: حُكِي عن جماعة مِنَ الأعلام منهم أصحاب مجمع البرهان والمدارك والحدائق (رحمهم الله جميعاً) أنَّه إذا تجاوز عدد الإبل المائة والعشرين تخير المالك بين الحساب بالأربعين ودفع بنت لَبُون عن كلِّ أربعين، والحساب بالخمسين ودَفْع حِقَّة عن كلِّ خمسين، من دون فرق بين استيفاء العدد بالأربعين فقط، كالمائة والسِّتين المساوي لأربع أربعينات، وبالخمسين فقط، كالمائة والخمسين المنقسم إلى ثلاث خمسينات، وبهما معاً، كالمائة والأربعين المنقسم إلى أربعين وخمسينين، وبكلِّ واحد منهما كالمائتين المنقسم إلى خمس أربعينات وأربع خمسينات.
ونسب ذلك إلى ظاهر الأصحاب، كما عن فوائد القواعد والرِّياض.
والحاصل: أنَّ هؤلاء الأعلام ذهبوا إلى التَّخيير بين كلٍّ مِنَ العددَيْن مطلقاً.
وبالمقابل، فقد قال الشَّهيد الثَّاني (رحمه الله) في المسالك في شرح قول المحقِّق في الشَّرائع: «فأربعون أو خمسون أو منهما» : «أشار بذلك إلى أنَّ النِّصاب بعد بلوغها ذلك يصير أمراً كُلِّياً لا ينحصر في فرد، وأنَّ التَّقدير بالأربعين والخمسين ليس على وجه التَّخيير مطلقاً، بل يجب التَّقدير بما يحصل به الاستيعاب، فإن أمكن بهما تخيَّر، وإن لم يمكن بهما وجب اعتبار أكثرهما استيعاباً، مراعاة لحقِّ الفقراء، ولو لم يمكن إلاَّ بهما وجب الجمع، فعلى هذا يجب تقدير أوَّل هذا النِّصاب، وهو المائة وإحدى وعشرون بالأربعين، والمائة وخمسين بالخمسين، والمائة وسبعين بهما، ويتخير في المائتين، وفي الأربعمائة يتخيَّر بين اعتباره بهما وبكلِّ واحد منهما...».
وعَنِ المحقِّق الثَّاني (رحمه الله) وغيره أيضاً التَّصريح: بأنَّ التَّقدير بالأربعين والخمسين ليس على وجه التَّخيير، بل على النَّحو الذي ذَكَره في المسالك، بل ربَّما نُسِب ذلك إلى المشهور.
وفي المدارك بعد نقل عبارة المسالك المتقدِّمة قال: «وما ذكره (رحمه الله) أحوط، إلاَّ أنَّ الظَّاهر التَّخيير في التَّقدير بكلٍّ مِنَ العددَيْن مطلقاً، كما اختاره (قد) في فوائد القواعد، ونسبه إلى ظاهر الأصحاب، لإطلاق قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: «فإن زادت على العشرين والمائة واحدة ففي كلِّ خمسين حِقَّة، وفي كلِّ أربعين ابنة لبون»، ويدل عليه صريحاً اعتبار التَّقدير بالخمسين، خاصَّة في روايتي عبد الرَّحمان وأبي بصير المتقدِّمتَيْن، ولو كان التَّقدير بالأربعين متعيِّناً في المائة وإحدى وعشرين، وما في معناها، لَمَا ساغ ذلك قطعاً» انتهى كلام المدارك.
والإنصاف: أنَّ ذِكْر الأربعين والخمسين في الرِّوايات المتقدِّمة لم يكن حكماً لخصوص المائة والإحدى والعشرين، حتَّى يتمَّ الاستدلال الذي ذَكَره صاحب المدارك (رحمه الله)، وإنَّما كان حكماً لما زاد على المائة والإحدى والعشرين مطلقاً، والمائة والإحدى والعشرون أحد أفراده، فلا ينافيه تعيَّن حسابها بالأربعين، كما لا ينافيه تعيُّن حساب المائة والخمسين بالخمسين التي هي من أفراده.
وبعبارة أخرى: إنَّ الإبل إذا كثرت وتجاوزت عن المائة والعشرين لا يتعلَّق النِّصاب فيها بخصوص عدد المجموع، بل يلاحظ العدد خمسين خمسين، وأربعين أربعين، فيخرج الفريضة منه على ما يقتضيه ذلك العدد بهذه الملاحظة.
فالنِّصاب حينئذٍ أمر كلِّي، وهو كلُّ خمسين وكل أربعين، فكلُّ جزء يفرض منه بالغاً حدَّ الأربعين فهو موجب لثبوت ابنة لَبُون فيه للفقير، وكلُّ ما يفرض بالغاً حدَّ الخمسين فهو سبب لثبوت حِقَّة فيه، ولكن لا على سبيل الاجتماع، بأن يحسب تارةً بهذا النَّحو، وأخرى بذاك النَّحو؛ ضرورة أنَّ المال الواحد لا يزكَّى في العامِّ الواحد إلاَّ مرةً واحدةً.
وبالجملة، فهو مخيَّر في إخراج أيِّهما شاء إذا أمكن الخروج عن عهدة ما ثبت في هذا المال بأيٍّ من العددين، كما إذا كان كلُّ مِنَ العددَيْن عادّاً للجميع، كما في المائتين والأربعمائة، وإلا تعيّن الأخذ بما يحصل به الاستيعاب إن كان، وإلاَّ فالأكثر استيعاباً؛ لأنَّا إذا فرضنا المجموع مائة وخمسين فقد تعلَّقت الزَّكاة بمجموعها؛ لأنَّ المجموع ثلاث مصاديق للخمسين، وقد دلَّت الرِّوايات على أنَّ في كلِّ خمسين حِقَّة، فلا عفو في هذا العدد، فلو عمل فيه بعموم قوله (عليه السلام): «في كلِّ أربعين ابنة لَبُون» للزم بقاء ثلاثين منها دون زكاة مع كونها جزءاً من النِّصاب الآخر.
وعليه، فيجب في مثل الفرض مقدِّمة للخروجه عن عهدة الزَّكاة الثَّانية في الجميع احتسابها خمسين خمسين.
ومن هنا يظهر الحال في الفرض الذي حصل فيه الاستيعاب بهما معاً، كالمائة والأربعين المنقسم إلى أربعين وخمسينين، فلو عمل فيه بعموم في كلِّ خمسين حِقَّة للزم بقاء أربعين منها دون زكاة مع كونها مصداقاً لقوله (عليه السلام): «في كلِّ أربعين ابنة لَبُون»، ولو عمل فيه بعموم: «في كلِّ أربعين ابنة لَبُون» للزم بقاء عشرين منها دون زكاة، مع كونها جزءاً من النِّصاب الآخر.
وعليه، فيجب في مثل الفرض مقدمِّة للخروج عن عهدة الزَّكاة الثَّابتة في الجميع احتسابها أربعين وخمسينين.
ومما يؤيِّد ما ذكرناه: قوله (عليه السلام) في حسنة الفضلاء المتقدِّمة: «وَلَيْسَ عَلَى النَّيفِ شَيءٌ»([1])، فإنَّه مُشعِر باختصاص العفو بالنَّــيِّــفِ الذي هو اسم لِما بين العقدين، كما لو كان المجموع مائة وخمس وستِّين من الإبل، فإنَّ هذه الخمسة عفو، ولا إشكال في العفو بالنسبة للنَّيف؛ وذلك للنصِّ الخاصِّ، وهو حسنة الفضلاء.
وأمَّا العَقْد فلا عفو فيه؛ إذ لا عقد من العقود إلاَّ ويطابقه أحد النِّصابين أو كلٌّ منهما أو كلاهما، فلو كان المجموع مائة وثلاثين فهو مؤلَّف منهما معاً، أي من خمسين وأربعينَيْن، وإذا كان المجموع مائة وأربعين فهو مؤلَّف منهما أيضاً، أي من خمسينَيْن وأربعين، ولو كان المجموع مائة وخمسين فهو مؤلَّف من أحدهما فقط، أي ثلاث خمسينات.
ولو كان المجموع مائة وستين، فهو مؤلَّف من أحدهما أيضاً، وهو أربع أربعينيات، ولو كان المجموع مائة وسبعين فهو مؤلَّف منهما معاً، أي ثلاث أربعينيَّات وخمسين، وهكذا، فلا يتصوَّر العفو في العقد.
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ المراد بقوله: «لَيْسَ على النَّيف شيء»، إنَّما هو في النِّصاب الأخير، أي بعد أن كثرت الإبل، لا مطلقاً كي ينافيه ثبوته في مثل ستٍّ وعشرين وغيرها من النُّصُب التي وقع التَّصريح بحكمها، مثل ستٍّ وثلاثين، وستٍّ وأربعين، وإحدى وستين، وإحدى وتسعين.
وأمَّا الاقتصار على الخمسين في صحيحة أبي بصير وحسنة عبد الرَّحمان بن الحجاج المتقدِّمتَيْن، حيث ورد في ذيل الأولى: «فإِذَا كَثُرتِ الإبل ففي كلِّ خمسينَ حِقَّة»، ومثله في ذيل الثَّانية، فلا بدَّ مِنَ التَّصرُّف فيهما إمَّا بالحَمْل على التَّخيير، أو بالحَمْل على خصوص صورة توقُّف الاستيعاب على العدِّ بالخمسين.
والخلاصة: أنَّ القول بالتَّخيير مطلقاً الذي ذهب إليه صاحبا المدارك والحدائق (رحمهما الله) وغيرهما من الأعلام، ليس تامّاً.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويتخيَّر المالك في مثل مائتَيْن بين الحِقَاق، وبنات اللَّبُون. وفي الخلاف: السَّاعي(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ التَّخيير في مثل المائتين والأربعمائة أو مطلقاً على القول به إنَّما هو للمالك، لا للسَّاعي، بل عَنِ المنتهى: نسبته إلى علمائنا، بل عَنِ التذكرة: «الإجماع عليه».
أقول: هذا هو الإنصاف، لا لأجل الإجماع المنقول بخبر الواحد؛ إذ قد عرفت حاله، بل لأن الساعي ليس له إلاَّ إلزام المالك بدفع ما ألزمه الشَّارع بدفعه، فإذا كان مفاد حكم الشَّارع هو الأمر الكُلِّي، أي أنّ ما وجب في ماله هو ما يقع في كلِّ أربعين ابنة لَبُون مصداقاً له، وما يقع في كلِّ خمسين حِقَّة مصداقاً له أيضاً، ولم يعيِّن الشَّارع عليه أحدهما، فليس حينئذٍ للسَّاعي الامتناع عن قبول أيٍّ منهما.
ويدلُّ عليه أيضاً: ما ورد في آداب المصدّق، ففي حسنة بريد بن معاوية «قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ الله (عليه السلام) يَقُولُ: بَعَثَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) مُصَدِّقاً مِنَ الْكُوفَةِ إِلى بَادِيَتِهَا، فَقَالَ لَهُ: يَا عَبْدَ الله، انْطَلِقْ، وَعَلَيْكَ بِتَقْوَى الله وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا تُؤْثِرَنَّ (تؤثر) دُنْيَاكَ عَلى آخِرَتِكَ إلى أن قال: فَإِذَا أَتَيْتَ مَالَهُ فَلَا تَدْخُلْهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ أَكْثَرَهُ لَهُ، فَقُلْ: يَا عَبْدَ الله، أَتَأْذَنُ لِي فِي دُخُولِ مَالِكَ؟ فَإِنْ أَذِنَ لَكَ، فَلَا تَدْخُلْهُ دُخُولَ مُتَسَلِّطٍ عَلَيْهِ فِيهِ، وَلَا عُنْفٍ بِهِ، فَاصْدَعِ الْمَالَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ أَيَّ الصَّدْعَيْنِ شَاءَ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضْ لَهُ، ثُمَّ اصْدَعِ الْبَاقِيَ صَدْعَيْنِ، ثُمَّ خَيِّرْهُ، فَأَيَّهُمَا اخْتَارَ فَلَا تَعَرَّضْ لَهُ، وَلَا تَزَالُ كَذلِكَ حَتّى يَبْقى مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِحَقِّ الله في (مِنْ) مَالِهِ، فَإِذَا بَقِيَ ذلِكَ فَاقْبِضْ حَقَّ الله مِنْهُ، وَإِنِ اسْتَقَالَكَ فَأَقِلْهُ، ثُمَّ اخْلِطْهَا، وَاصْنَعْ مِثْلَ الَّذِي صَنَعْتَ أَوَّلاً حَتّى تَأْخُذَ حَقَّ الله فِي مَالِهِ...»([2]).
هذا، وعَنِ الشَّيخ في الخلاف والمبسوط أنَّه قال: «يتخير السَّاعي»، ولكن لا دليل عليه، بل ظاهر ما ذكرناه خلافه، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا فرق بين العِرَابي والبَخَاتي. وفي الإخراج يقسَّط، وكذا في البقر والجاموس، والمعز والضَّأن(1)
(1) يقع الكلام في أمرَيْن:
الأوَّل: المعروف بين الأعلام أنَّه لا فرق في الإبل بين العِرَاب والبَخَاتي، ففي حسنة الفضلاء عن أبي جعفر وأبي عبد الله (عليهما السلام) في حديث «قَاْلَ: قُلْتُ: فَمَا في البُّخْتِ السَّائمةِ شَيءٌ؟ قَاْل: مِثْلُ مَاْ في الإِبِلِ العَرَبيَّةِ»([3]).
قال الفيُّومي في مصباحه: «والبُخْتُ: نوع مِنَ الإبل، ... الواحد بُخْتيٌّ، مثل رُوْم ورُوْمِي، ثم يُجمعُ على (البخاتيّ) ويخفَّف ويثقل»، والأعلام عبَّروا عنها بالإبل الخراسانيَّة.
ويدلُّ على عدم الفرق أيضاً: ما دلَّ على وجوب الزَّكاة في الإبل، فإنَّها تصدق على القسمَيْن، كما أنَّه لا فرق أيضاً بين الجاموس والبقر، فإنَّهما جنس واحد، ففي حسنة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) «قَاْل: قُلْتُ له: في الجَوَامِيْسِ شيءٌ؟ قَاْل: مِثْل مَاْ في البَقَرِ»([4]).
وأيضاً لا فرق في الغنم بين الضَّأن والمعز؛ لإطلاقه على كلٍّ منهما، كما أنَّ الشَّاة تُطْلق على كلِّ منهما وموضوع الحكم في الرِّوايات هو الغنم والشياه.
([1]) الوسائل باب 2 من أبواب زكاة الأنعام ح6.
([2]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الإنعام ح1.
([3]) الوسائل باب 3 من أبواب زكاة الأنعام ح1.
([4]) الوسائل باب 5 من أبواب زكاة الأنعام ح1.