الدرس209 _مكان المصلي 2
أمَّا الأمر الأوَّل: فالمعروف بين الأعلام هو كفاية الرضا النفسي، فلو علم برضاه مع عدم إنشاء الإذن من المالك لجاز التصرف وإن لم يكفِ ذلك في المعاملات، إذ يُعتبر فيها زيادة على الرضا النفسي إنشاء المعاملة بالقول أو بالفعل ولو أذن المالك بالتصرّف، وعلمنا بعدم رضاه، لم يجزِ التّصرف.
وممّا يدلّ على كفاية الرضا النفسي موثّقة سماعة عن أبي عبد الله N في حديث «أنَّ رسولَ الله C قال: مَنْ كانت عنده أمانة فَلْيؤدِّها إلى مَنِ ائتمنه عليها، فإنّه لا يحلّ دمُ امرىء مسلمٍ، ولا مالِه، إلاَّ بطيبةِ (نفس منه) نفسه»[i]f476.
ويؤيِّده: ما في تحف العقول عن رسول الله C «أنّه قال في خطبة الوداع: أيّها النّاس إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ، ولا يحلّ لمؤمنٍ مالُ أخيه إلاَّ عن طيبِ نفسٍ منه»[ii]f477.
وإنَّما جعلناه مؤيِّداً لأنّه ضعيف بالإرسال، ولا فرق بين المسلم والمؤمن، وغيرهما ممّن هو محقون الدم والمال، كالذميّ بلا خلاف، فتخصيص المسلم أو المؤمن بالذِّكر في الروايتَيْن لعلَّه لجريه مجرى الغالب في مقام الابتلاء.
لا يقال: إنّ متعلق عدم الحلّ في موثّقة سماعة غير معلوم، لاحتمال أن يكون المقصود به خصوص التصرّفات المتلِفة، وأمَّا التصرفات غير المتلِفة لمالِ الغير، كالصَّلاة في المكان، فلا تكون مشمولة للموثَّقة.
فإنَّه يُقال: إنَّ الموثَّقة مطلقة تشمل كِلا الأمرَيْن، كما هو واضح.
إن قلت: إنّ التوقيع عن صاحب الزمان عجل الله فرجه الشريف المروي في كمال الدّين للشيخ الصّدوق R، والاحتجاج للطبرسي R، يدل على اشتراط الإذن، وعدم الاكتفاء بالرضا الباطني، حيث ورد فيه: «وأمَّا ما سألتَ عنه من أمر الضّياع التي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى الناحية، احتساباً للأجر، وتقرّباً إليكم؟ فلا يحلّ لأحد أن يتصرف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في مالنا؟!...»[iii]f478.
قلتُ: أن هذا الحديث، وإن كان معتبر السند كما تقدم في المجلد الأول من كتاب الصلاة ص 322، إلا أنه لا يُفهم منه أنّ للإذن موضوعيّة في المقام، بل الظاهر أنّ أخذ الإذن في الرّواية إنّما هو على سبيل الطريقيّة، باعتبار أنّ الإذن كاشف عن الرضا النفساني الذي هو المناط في جواز التصرّف.
وأمَّا الأمر الثاني: فإنه يوجد تسالم بين الأعلام على كفاية الرضا التقديري، بمعنى أنّه لو علم به رضي به، ولا يشترط الرضا الفعلي.
ويشهد لذلك: استقرار سيرة العُقلاء قاطبةً على الاكتفاء بالرضا التقديري في استباحة التصرّف في مال الغير.
ومن هنا يصحّ تصرّف الصديق في مال صديقه، مع القطع برضاه لو التفت، مع أنّه فعلاً قد يكون نائماً، أو غافلاً، أو غائباً، ولا يحتاج في التصرّف إلى رضاه الفعلي.
إن قلتَ: إنّ موثّقة سماعة ظاهرة في اعتبار الرضا الفعلي، لأنّ الموضوعات المأخوذة في لسان الأدلّة يتبادر منها المعنى الفعلي، لا التقديري.
قلتُ: هذا الأمر، وإن كان صحيحاً ومتيناً، إلاّ أنّه لا بدّ من تعميمه على وجهٍ يشمل الرِّضا التقديري هنا، وذلك للسيرة العقلائيّة القطعيّة الممضاة من الشارع المقدّس.
وممّا يشير إلى كفاية الرضا التقديري خبر سعيد بن الحسن «قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ N: أيَجِيءُ أَحَدُكُمْ إِلَى أَخِيه، فَيُدْخِلُ يَدَه فِي كِيسِه، فَيَأْخُذُ حَاجَتَه، فَلَا يَدْفَعُه؟ قُلْتُ: مَا أَعْرِفُ ذَلِكَ فِينَا، فَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ N: فَلَا شَيْءَ إِذاً، قُلْتُ: فَالْهَلَاكُ إِذاً، فَقَالَ: إِنَّ الْقَوْمَ لَمْ يُعْطَوْا أَحْلَامَهُمْ بَعْدُ»[iv]f479، وهو ضعيف بجهالة سعيد بن الحسن.
وخبر بريد العجلي «قال: قيل لأبي جعفر N: إنّ أصحابنا بالكوفة لَجماعة كثيرة، فلو أمرتهم لأطاعوك واتبعوك، قال: يجيءُ أحدُكم إلى كيسِ أخيه، فيأخذ منه حاجته؟ فقلت: لا، فقال: هم بدمائهم أبخل، ثمَّ قال: إنَّ الناسَ في هدنةٍ تناكحهم وتوارثهم (نناكحهم ونوارثهم) حتّى إذا قام القائم جاءت المزايلة ، وأتى الرّجل إلى كيسِ أخيه، فيأخذ حاجته، فلا يمنعه»[v]f480، وهو ضعيف بالإرسال.
لا داعي إلى تنزيلهما على إرادة خصوص ما لو علم به المالك حين أخذ المال من كيسه، بل المقصود بالاستفهام بحسب الظاهر هو الاستعلام عن وصولهم في مقام الأخوّة والصداقة إلى حدِّ طيب نفوسهم بتصرُّف كلٍّ منهم في ملك صاحبه بما يحتاج، من غير احتياج إلى استئذان منه.
والخلاصة إلى هنا: أنّه يكفي الرضا التقديري، وعدم العبرة بالكراهة الفعليّة فيما إذا كانت الكراهة ناشئة عن الجهل بخصوص الشخص، كما لو رأى شبحاً من بعيد، فنهاه عن الدخول إلى داره، وكان ذلك الشخص ممَّن لا يقصده بالنهي على تقدير معرفته بشخصه، كما لو كان ابنه، أو صديقه الذي يرضى بدخوله.