الدرس178 _لباس المصلي 51
ثمَّ إنَّك عرفت سابقاً أنّه لا بدّ على كلا القولين أي القول بالشرطيّة أو المانعيّة من إحراز الصحَّة عند الشروع بالصَّلاة، أي لا بدّ من إحراز أنّ اللباس ليس من غير المأكول، إمَّا بأمارة أو بأصل، ضرورة أنّ الشكّ في اقتران الصَّلاة بما ينافيها شكّ في صحّتها، وموافقتها للأمر.
وأمَّا القول: باختصاص ذلك بالشرطيّة، للزوم إحراز الشّرط دون المانعية، فإنَّ مرجع الشكّ في وجود المانع كافٍ في الحكم بعدمه لقاعدة المقتضي والمانع، ففي غير محلّه، لما عرفت من عدم ثبوت هذه القاعدة.
نعم، الفرق بين المانعية والشرطية: أنَّ المانع أمر حادث مسبوق بالعدم، فيمكن إحراز العدم بأصل موضوعي، أو حكمي، بخلاف الشرطيّة فإنّ وجودها على خلاف الأصل، فتحتاج إلى الدليل.
وبما أنَّك عرفت أنّ ما لا يُؤْكل لحمه هو مانع من الصحَّة فلا بدّ من إحراز عدم المانع إمَّا بأصل موضوعي، أو أصل حكمي، فيقع الكلام في أمرَيْن:
الأول: في الأصل الموضوعي، أي الذي ينقَّح به حال الموضوع، والذي هو حاكم على الاصول الحكمية من براءة، أو اشتغال.
الثاني: الأصل الحكمي: ومن المعلوم أن الكلام في الأصل الحكمي إنّما هو على فرض عدم تمامية الأصل الموضوعي.
أما الأمر الأول: أي الأصل الموضوعي، والذي هو هنا الاستصحاب فقد يقرر بوجوه:
الأوَّل: استصحاب الإباحة الثابتة قبل البلوغ بدعوى جواز أكل لحم كافّة الحيوانات محلّلها ومحرّمها قبل وضع قلم التكليف، وبعد البلوغ يشكّ في انقلاب الجواز إلى المنع بالنسبة إلى الحيوان الذي اتّخذ منه هذا اللباس، ومقتضى الأصل بقاؤه على ما كان.
وعليه، فإذا جاز أكله لأجل الاستصحاب جازت الصَّلاة فيه أيضاً لإحراز موضوعه بالتعبُّد الشرعي.
هذا، وقد أشكل السّيد أبو القاسم الخوئي على هذا الاستصحاب بإشكالين:
أحدهما: أنَّ المقسَم في الأحكام الخمسة على ما يشهد به حديث: «رفع القلم عن الصبي» هو من وُضع عليه قلم التكليف، وهو البالغ، فالصبي خارج عن دائرة الحكم، ونفي الحرمة عنه إنّما هو من باب السالبة بانتفاء الموضوع.
إذن، فاستصحاب الحلّ إلى ما بعد البلوغ إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر، وليس من الاستصحاب المصطلح في شيء.
ثانيهما: أنّ الإباحة الثابتة حال الصغر إباحة فعليّة، وموضوع جواز الصَّلاة هو الحلّية الطبعيّة الشأنيّة، فاستصحاب تلك الإباحة لا ينفع لإثبات موضوع الحكم، إذ لا تنافي بين الحلّيّة الفعليّة الناشئة من العوارض المانعة عن التنجّز من جنون أو صغر أو اضطرار، ونحوها، وبين الحرمة الشأنية.
أقول:
يرد على إشكاله الأوّل: أنّ المقسَم للأحكام الخمسة ليس خصوص البالغ؛ نعم، الأحكام الإلزاميّة الشرعيّة من الوجوب والحرمة موضوعها البالغ، وأما باقي الأحكام فقد يكون موضوعها الصبيّ المميّز المراهق.
ومن هنا ثبت استحباب الصَّلاة والصوم والحج والزكاة والخمس في حقِّه؛ نعم، الصبيّ غير المميِّز خارج عن دائرة الحكم.
وأما حديث «رفع القلم عن الصبي حتّى يحتلم»، فقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنّه ضعيف السّند.
وعليه، فالإباحة ثابتة قبل البلوغ، وليس استصحاب الحلّ إلى ما بعد البلوغ إسراء للحكم من موضوع إلى موضوع آخر.
نعم، إشكاله الثاني: وارد، ولأجله لا يتمّ هذا الوجه من الاستصحاب.
الوجه الثاني: استصحاب عدم جعل الحرمة للحيوان الذي اتّخذ منه هذا اللباس، باعتبار أنّها حادثة مسبوقة بالعدم الثابت قبل الشرع، فيستصحب ذاك العدم، سواء أكانت الشبهة حكميّة، كالمتولد من حيوانين: محرم الأكل ومحلل، ولم يشبه أحدهما، أم موضوعيّة كما لو تردّد الحيوان المتّخذ منه اللباس بين الأرنب والشاة، فإنّ الحرمة قد ثبتت للأرنب على سبيل القضيّة الحقيقية، فتثبت لكل فرد حكم يخصه، فإذا شككنا في أنّ هذا الحيوان المتخذ منه اللباس هو أرنب أم لا، فنشك حينئذٍ في تعلّق الحرمة بهذا الفرد، ومقتضى الأصل هو العدم.
هذا، وقد أورد الشيخ النائيني R على هذا الاستصحاب عدة أمور نذكر منها أمرين:
أمَّا الأوّل: أنّ عدم الحرمة الثابت قبل الشريعة يغاير في سنخه العدم الثابت بعدها، فإنّ الأوّل عدم محمولي من باب السّالبة بانتفاء الموضوع، حيث لا شرع ليحكم بها أو بعدمها، ويكون التقابل بينه وبين جعل الحرمة من تقابل السلب والإيجاب.
وأمَّا الثاني: فهو عدم نعتي، أي متصف بالانتساب إلى الشارع الأقدس، ويكون التقابل بينه وبين جعلها من تقابل العدم والملكة.
وإن شئت قلت: إنَّ العدم الثابت سابقاً هو عدم الحكم بالحرمة، والذي يقصد إثباته لاحقا هو الحكم بعدم الحرمة، ومن الواضح أنّ إثبات الثاني بالاستصحاب الجاري في الأوّل من أوضح أنحاء الأصل المثبت، فإنَّ هذا نظير إثبات العمى باستصحاب عدم البصر الثابت قبل الخلقة، حيث إنّ الثابت سابقاً عدم محمولي، أي عدم الاتِّصاف بالرؤية، فلا يثبت به العدم النعتي، أي الاتصاف بعدم الرؤية الذي هو معنى العمى إلاَّ على القول بحجيّة الأصول المثبتة.
هذا، وقد أشكل عليه السّيد أبو القاسم الخوئي R: «بأنّ الشريعة عبارة عن مجموعة أحكام منسوبة لصاحبها، ومجعولة لمشرِّعها، فإنَّ قلنا: بأنَّ الشارع هو الله سبحانه وتعالى فلا شبهة في انتساب العدم إليه، فهو نعتي حتّى قبل بعث الرسول C، وأمره بنشر الأحكام فكان اللحم المزبور جائز الأكل آنذاك، ومتصفاً بأنَّه لا حرمة له فيُستصحب إلى ما بعد البعث.
وإن قلنا: بأنّ الشارع هو النبيّ C فكذلك، بداهة أنّ الأحكام لم تُجعل دفعة واحدة، بل كان التشريع على سبيل التدريج وكانت تُبلّغ شيئاً فشيئاً حسب المصالح الوقتية، إذن فلم تكن حرمة اللحم مجعولة في بدء الشريعة فكان العدم وقتئذٍ نعتيا بالضرورة فيستصحب».
ويرد عليه: أنّ العدم الثابت قبل الشريعة ليس هو العدم النعتي، سواء أقلنا: بأنّ الشارع هو الله سبحانه وتعالى أم الرسول C، وذلك لأنَّ وصف الله سبحانه وتعالى بأنه الشارع أو الرسول C إنّما يكون بعد جعل الأحكام وإنشائها، وقبل ذلك لا يتّصف الله سبحانه بأنّه شارع، وكذا الرسول C، إذ لم يجعل الأحكام وينشئها حتّى يتّصف بهذا العنوان، ولا ملازمة بين وجود الله سبحانه وتعالى ووجود الرسول C، وبين صفة الشارعيّة.
وعليه، فما ذكره الميرزا النائيني R من أنّ العدم قبل الشرع عدم محمولي، ومن باب السالبة بانتفاء الموضوع، حيث لا شرع ليحكم بها، أو بعدمها، في غاية الصحَّة والمتانة.