الدرس 38 _ مقدمات علم الاصول 38
المبحث الأوّل وجوه القول بالصحيح
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «وكيف كان، فقد استُدل للصحيحي بوجوه: أحدها: التبادر، ودعوى أنَّ المنسبق إلى الأذهان منها هو الصحيح، ولا منافاة بين دعوى ذلك، وبين كون الألفاظ على هذا القول مجملات، فإنَّ المنافاة إنما تكون فيما إذا لم تكن معانيها على هذا مبيَّنة بوجه، وقد عرفت كونها مبيَّنة بغير وجه».
بعد الفراغ عن الأمور الأربعة المتقدّمة، وهي: جريان النـزاع على المباني المختلفة، ومعنى الصحيح والأعمّ، والقدر الجامع على القول بالصحيح والقول بالأعم، وثمرة النـزاع بين القولين، نشرع تبعاً لصاحب الكفاية في بيان الوجوه التي استدلّ بها على القول بأنَّ ألفاظ العبادات موضوعة لخصوص الصحيح، وإلا فإنّنا بالغنى عن ذلك؛ لما عرفت من أنَّه لا يمكن تصوير الجامع على القول بالصحيح في مقام الثبوت، وعليه فلا معنى للنـزاع في مقام الإثبات، بل يتعيّن عندنا القول بالأعم. وإنَّما نتكلم في مقام الإثبات بالنسبة للقول بالصحيح مجاراةً للقائلين بإمكان تصوير الجامع للقول بالصحيح.
ومهما يكن من شيء، فقد استُدلّ للصحيحي بوجوه خمسة:
الوجه الأوّل: التبادر
فإنَّ المتبادَر إلى ذهن السامع حين سماعه ألفاظ العبادات، هو خصوصُ الصحيح منها، والتبادر أمارة على الحقيقة.
ثمَّ أشكل صاحب الكفاية على نفسه بأنَّ ألفاظ العبادات لمّا كانت مجملة، فلا يمكن أن يحصل التبادر من خلالها.
وأجاب: صحيح أنّها مجملة، لكنّها ليست كذلك من جميع الوجوه؛ لأنها مبيَّنة بآثارها، كالصلاة مثلاً، فإنّها معراج كلّ مؤمن، وقربان كلّ تقي، ونحو ذلك، فهذه الآثار مبيِّنة للصلاة في الجملة.
وفيه: أوّلاً: إنَّما يكون التبادر أمارة على الحقيقة إذا كان من حاق اللفظ، لا من قرينة خارجية، وفي المقام إن كان ثمّة تبادر فهو من القرينة؛ ذلك أنّنا لو سمعنا مثلاً: (زيد يصلي)، فإنّه يتبادر إلى ذهننا أنَّه يصلّي صلاة صحيحة؛ حملاً لفعله على الصحة، فإنَّ هذا التبادر ناشئ من قرينة كونه مسلماً، ومن شأن المسلم أن يصلّي الصلاة الصحيحة لا الفاسدة، وإلا فلو سمعنا لفظ (الصلاة) مجرّداً عن القرينة، فلن يحصل التبادر المدّعى، هذا إذا لم نقل بأنّ المتبادر الحاقي حينها هو الأعم.
ثانياً: ما جاء في جوابه (رحمه الله) من أنَّ الإجمال من وجه لا يضر؛ لأنَّه مبيَّن بالآثار، في غير محلّه؛ لأنَّ الآثار للصحة الفعلية، وكلامنا في الصحة الاقتضائية من جهة، ومن جهة أخرى إنَّ الآثار؛ ككون الصلاة معراجاً للمؤمن، وقربان كلّ تقي، لا يلتفت إليها غالب الناس، ومع عدم التفاتهم إليها فكيف ينتقلون من خلالها إلى معنى الصلاة؟!
الوجه الثاني: صحة السلب عن الفاسد
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «ثانيها: صحة السلب عن الفاسد، بسبب الإخلال ببعض أجزائه، أو شرائطه بالمداقة، وإن صح الإطلاق عليه بالعناية».
مفاد هذا الوجه أنَّ المكلف لو أخلّ ببعض الأجزاء والشرائط، لصح أن يقال له: (هذه ليست بصلاة)، وصحة سلب لفظ (الصلاة) عن الفاسدة أمارة على أنّها ليست موضوعة إلا لخصوص الصحيح منها، وأمّا إطلاق الناس لفظ الصلاة على الفاسدة، فليس إلا من باب التساهل والعناية.
وفيه: أنَّ دعوى صحة السلب أوّل الكلام، بل نرى بالوجدان عدم صحة السلب، ومن هنا نجد أنَّ العرف يطلق لفظ (الصلاة) على ما كانت بلا سورة أو بلا طهـارة خبثيَّة بلا عناية وتنـزيل، كلّ ما في الأمر أنَّه لا يصدق على الفاسدة أنَّها صلاة مأمور بها؛ لبداهة أنَّ الشارع المقدّس لا يأمر بالفاسد، إلا أنَّ كلامنا في الصلاة نفسها مع قطع النظر عن كونها مأموراً بها أم لا.
الوجه الثالث: الأخبار الظاهرة في إثبات الآثار للمسمّيات
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «ثالثها: الأخبار الظاهرة في إثبات بعض الخواص والآثار للمسميات مثل «الصلاة عمود الدين»( )، أو «معراج المؤمن»( )، و«الصوم جُنَّة من النار»( )، إلى غير ذلك...».
يقول (رحمه الله): إنَّ إثبات الخواص والآثار للمسمّيات العبادية كاشف عن أنَّ المراد خصوص الصحيح منها؛ لأنَّ الآثار لا تترتّب على الفاسد.
وتقريبه: قوله C: «الصلاة معراج المؤمن» أصل صحيح، فيصحّ عكس نقيضه (كلّ ما لم يكن معراجاً للمؤمن فليس بصلاة)، وبما أنَّ الصلاة الفاسدة لا معراجية فيها، فليست بصلاة.
جوابه: أنّ هذا الوجه مرتبط بمبحث العام والخاص، ودوران الأمر بين التخصيص والتخصّص؛ فلو ورد (أكرم كلّ عالم)، وقد علمنا من الخارج بعدم وجوب إكرام (زيد)، وشككنا في أنَّ عدم وجوب إكرامه من باب التخصيص أي يجب إكرام كلّ عالم إلا زيداً أم من باب التخصّص والخروج الموضوعي؟ فكذلك هنا، فإنّه ثبت لدينا أنَّ الصلاة الفاسدة لا آثار لها حتماً، ولكنّنا نشكّ هل خروج الصلاة الفاسدة عن دائرة التأثير تخصّصاً أي لكونها ليست بصلاة أصلاً أم تخصيصاً؛ أي كلّ صلاة يترتب عليها الآثار إلا هذه الصلاة.
ذهب جماعة كثيرة من الأعلام هناك إلى العمل بأصالة العموم وعدم التخصيص، وبالتالي يكون الفرد خارجاً تخصّصاً، ممّا يعني بالنسبة للمقام أنَّ نفي الآثار نافٍ لعنوان الصلاة أصلاً، فتكون موضوعة لخصوص الصحيح منها. ولكن المفارقة أنَّ صاحب الكفاية هناك لم يقبل بتقديم أصالة العموم، وهو الحق خلافاً لما ذهب إليه هنا، والسرّ فيه أنَّ العام إنَّما يدل على ثبوت حكمه لكلّ واحد من أفراده.
وعليه، فإذا شُكّ في ثبوت حكمه لفرد، كان العام نافياً لذلك الشك. أمّا إذا عُلم الحكم، وشُكّ في أنَّ موضوعه من أفراد العام أم لا، فلا يدلّ العموم على نفي ذلك الشك؛ لأنَّ المشكوك خارج عن مدلوله.
إن قلتَ: إنَّ العموم من الظهورات، والظهور من الأمارات، فيكون حجّة في مدلوله الالتزامي، كما هو حجّة في مدلوله المطابقي.
وعليه، فيكون عكس النقيض الذي هو من لوازم القضية حجة؛ فقولنا: (كل عالم يجب إكرامه)، ينعكس بعكس النقيض إلى (كل ما لا يجب إكرامه فليس بعالم)، فإذا ثبت أنَّ زيدا لا يجب إكرامه، وجب الحكم عليه بأنَّه ليس عالماً.
قلتُ: وإن كان المعروف بين الأصوليين أنَّ لوازم الأمارة حجة، إلا أنَّه ليس على إطلاقه، بل يختلف ذلك باختلاف مقدار دلالة دليل الحجية، فإذا كان مطلقاً، كانت لوازمه حجّة مطلقاً أيضاً، وإذا كان مهملاً، اقتصر فيه على القدر المتيقّن؛ وحيث إنَّ دليل حجية الظهور بناء العقلاء، وهو دليل لبّي، فيقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو ما عرفته.
ولم يثبت بناء العقلاء على حجّية الظهور بالإضافة إلى عكس النقيض، فيُرجع فيه إلى أصالة عدم الحجية. وفيما نحن فيه لم نحرز الموضوع؛ لأنّنا لا ندري هل عنوان الصلاة منطبق على الصلاة الفاسدة الخالية من الآثار أم لا، وبالتالي لا يصحّ التمسك بالعموم لنخرج الصلاة الخالية من الآثار عن عنوان الصلاة أصلاً.
الوجه الرابع: الأخبار الظاهرة في نفي ماهيّة المسمّيات بفقد ما يعتبر في الصحة.
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «... أو نفي ماهيتها وطبائعها، مثل «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب» ونحوه، مما كان ظاهراً في نفي الحقيقة...».
مفاد هذا الوجه أنَّ المتأمل في مثل الخبر الوارد عنه C من أنَّه: «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب»( )، يجد أنَّ المراد نفي حقيقة الصلاة وجنسها عمّا كان خالياً من جزء ولو غير ركني كالفاتحة، ممّا يعني أنَّها موضوعة لخصوص الصحيح.
وأمّا تقدير كلمة (صحيحة)؛ حيث يصبح المعنى (لا صلاة صحيحة إلا بفاتحة الكتاب)، ممّا يعني أنَّ الصلاة بلا فاتحة صلاةٌ وإن كانت فاسدة، فهو وإن كان ممكناً، وله وجه، إلا أنَّ الأصل عدم التقدير، بل ذكر (رحمه الله) أنَّ استعمال هذا التركيب في نفي الصفة ممكن المنع، حتى في مثل الخبر المروي عن النبي C: «لا صلاة لجار المسجد إلا في مسجده»( )، ممّا يعلم أنَّ المراد نفي الكمال بدعوى استعماله في نفي الحقيقة ادعاءً وتنـزيلاً على مذهب السكاكي، فلا تقدير حينئذٍ، بل المراد من هذا التركيب نفي الصلاة حقيقة لجار المسجد، ولكن على نحو الحقيقة الادعائية، ولا يخفى ما فيه من المبالغة.