الدرس 48 _ الاجتهاد والتقليد 48
ثم أنه بقي الكلام في أمرين: الامر الأوّل: في معنى العدالة. الامر الثاني: في كيفية إحرازها. وبذلك ينتهي الكلام عن الاجتهاد والتقليد.
أمّا الأمر الأوّل: في معنى العدالة.
فالعدالة لغة: هي الاستواء والاستقامة، كما في المدارك. وأن يكون الإنسان متعادل الأحوال متساوياً، كما في المبسوط والسرائر.
والعدالة شرعاً -بناءً على ثبوت الحقيقة الشرعية أو لا أقل من ثبوت الحقيقة المتشرعيّة-: هي الاستقامة الواقعية في جادة الشرع، فيعتبر في كون الرجل عدلاً كونه في الواقع مواظباً على الطاعات ومجتنباً عن المعاصي الظاهرية والباطنية، كالكبر والحسد والشرك والنفاق والرياء في العبادات، وغير ذلك من الأمور الخفيّة التي لا يطلع عليها غالباً إلا علّام الغيوب. وهذا هو الإنصاف عندنا.
وبالجملة، فهي من الأوصاف الغير قابلة للإحساس، وإنما يستكشف وجودها بوجود أثارها كالمواظبة على فعل الطاعات والتجنب عن المعاصي الواقعية والظاهرية.
ولكي يتضح الحال، وتكون على بصيرة من أمرنا، نقول:
أولاً: ان معنى العدالة في الشرع واحد له مراتب متفاوتة. وعليه، فهي بمعنى واحد في كل ما اعتبرت فيه من شهادة وطلاق وإمام جمعة وجماعة وحاكم شرعي ومرجع تقليد ونحو ذلك، لا أنها في الشاهد والطلاق وإمام الجماعة ونحوه بمعنى وفي مرجع التقليد، ونحوه بمعنى آخر.
وثانياً: ان الأعلام اختلفوا في معنى العدالة على أقوال:
القول الأوّل: ان العدالة هي الإسلام مع عدم ظهور الفسق، كما عن ابن الجنيد والمفيد والشيخ في الخلاف.
وفي السرائر حيث جعله قريباً، قال في باب الشهادات: «ان العدل من كان عدلاً في دينه عدلاً في مروّته عدلاً في أحكامه فالعدل في الدين أن لا يخل بواجب ولا يرتكب قبيحاً وقيل أن لا يعرف بشيء من أسباب الفسق وهذا أيضاً قريب...الخ». (انتهى كلامه).
ومرادهم بالإسلام الإيمان وإلّا فظاهر الإسلام من دون معرفة كونه مؤمناً غير كاف، كما سيتضح لك. وسيتضح لك أيضاً، ان ظاهر الإسلام مع عدم ظهور الفسق هو طريق لثبوت العدالة لا أن العدالة هي الإسلام، وعدم ظهور الفسق.
ومهما يكن، فقد استدل لكون العدالة هي الإسلام مع عدم ظهور الفسق بعدّة أدلة:
الدليل الأول: الإجماع القولي والعملي. كما عن الشيخ في محكي الخلاف، حيث قال -على حسب ما نقل عنه-: «إذا شهد عند الحاكم شاهدان يعرف إسلامهما ولا يعرف فيهما جرحاً حكم بشهادتهما ولا يقف على البحث ...» إلى أن قال: «دليلنا إجماع الفرقة وأخبارهم، وأيضاً الأصل في الإسلام العدالة والفسق طارٍ عليه يحتاج إلى دليل، وأيضاً نحن نعلم أنه ما كان البحث في أيام النبي (صلّى الله عليه وآله) ولا في أيام الصحابة ولا أيام التابعين وإنما هو شيء أحدثه شريك بن عبد الله القاضي ولو كان شرطاً ما أجمع أهل الأمصار على تركه». (انتهى كلامه). وفيه، ما عرفته في أكثر من مناسبة: من أن الإجماع المحصّل غير حاصل، إذ يحتمل أن يكون الدليل على ذلك ما سيأتي من سائر الأدلة فيكون إجماعاً مدركياً أو محتمل المدركية. وأمّا الإجماع المنقول بخبر الواحد فهو غير حجّة كما عرفت.
وأمّا قوله: «بأننا نعلم بأنه ما كان البحث في أيام النبي (صلّى الله عليه وآله) ولا في أيام الصحابة ولا أيام التابعين». ففيه: أنه لو ثبت ذلك في عصر الصحابة والتابعين إلّا أنه غير حجّة، ومتى كنّا نستدل بسيرة الصحابة والتابعين؟ إذ من المعلوم ان قضاتهم في تلك الأعصار لم تكن برضا الحجّة (عليه السّلام) وإمضائه.
وأمّا أنه لم يكن البحث في عصر النبي (صلّى الله عليه وآله). فهذا شيء يحتاج إلى إثبات.
بل المروي عن حال النبي (صلّى الله عليه وآله) انه كان (صلّى الله عليه وآله) يبحث، فقد قال الشيخ الحر في الهداية: «روي أن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) كان إذا تخاصم إليه رجلان. (إلى أن قال): وإذا جاؤوا بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كل منهما من حيث لا يشعر الآخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحلّاتهم فإذا أثنوا عليهم قضى حينئذ على المدعى عليه وان رجعا بخبر شين وثناء قبيح لم يفضحهم ولكن يدعو الخصمين إلى الصلح وان لم يعرف لهم قبيلة، سأل عنهما الخصم، فإن قال: ما علمت منهما إلا خيّراً أنفذ شهادتهما».[1] ولكنها ضعيفة بالإرسال، ومهما يكن، فهذا الدليل لم يكتب له التوفيق.
الدليل الثاني: أصالة الصحة في أفعال المسلمين وأقوالهم المستلزمة للحكم بأنه لم يقع منه ما يوجب الفسق فيكون عدلاً لعدم الواسطة بينهما. وفيه: أن أصالة الصحّة لا توجب تنزّهه في الواقع عن ارتكاب القبيح الذي من جملته ترك الواجبات حتى نحكم بعدالته تعبّداً. وتوضيحه، أن أصالة الصحّة على قسمين:
أحدهما: أنه متى صدر منه فعل قابل للاتصاف بالصحيح والفاسد من عبادة أو معاملة فيحمل على الصحيح، وهو بهذا المعنى لا دخالة لها بما نحن فيه، ولا يختص موردها بالمسلم، ولذا لو كانت هناك معاملة فيقدّم قول مدّعي الصحة مع يمينه -إذا لم يكن هناك بيّنة للطرف الآخر- في مقام الخصومة مطلقاً وإن كان كافراً.
وثانيهما: أن يحمل أفعاله وأقواله على الوجه الحسن، بمعنى أنك لو رأيت منه فعلاً أو سمعت قولاً قابلاً لكونه واقعاً على وجه قبيح لا تتهمه بذلك بل احمله على أحسنه ما دمت تجد له محملاً صحيحاً قابلاً لأن يحمل عليه، كما يستفاد ذلك من جملة من الروايات تقدّمت سابقاً في أواخر مبحث الاستصحاب عند الكلام عن أصالة الصّحة. ولكن المراد من هذه الروايات عدم اتهام المؤمن وعدم سوء الظن به لا الحكم بتنزّهه في الواقع عن ارتكاب القبيح الذي من جملته ترك الواجبات حتى يحكم بعدالته تعبّداً.
أضف إلى ذلك: ان هذا الأصل معارض بظواهر الروايات الآتية -إن شاء الله تعالى- التي كادت أن تكون متواترة، على أنه يعتبر في العدالة أمر زائد على الإسلام مع عدم ظهور الفسق فينقطع حينئذٍ العمل بالأصل.
[1] هداية الأمة: القضاء، الباب الحادي عشر، ح34.