الدرس 189 _ تنبيهات الإستصحاب 10
وقد أجيب عن هذا الإشكال ببعض الوجوه:
ومنها: وهو أهمها، ولكنه يتوقف على تقديم مقدمتين:
المقدمة الأولى، وحاصلها: أنّ الطهارة والنجاسة من سنخ الأعراض الخارجية التي لا توجد في الخارج إلا في ضمن موضوع، ولا توجد خارجاً مستقلة عن الموضوع، وليست الطهارة والنجاسة من سنخ الأحكام التكليفية المتعلقة بالطبيعة الصرفة القابلة للانطباق على الخارجيّات.
المقدمة الثانية: أنّ نجاسة الملاقي (بالكسر) مترتبة على نجاسة الملاقى (بالفتح) بنحو مفاد كان الناقصة لا التامّة، كما سيتضح لك.
إذا عرفت ذلك فنقول:
إنّ الاستصحاب هنا بمفاد كان الناقصة لا يجري لعدم اليقين السابق، إذْ كلّ واحدٍ من طرفَي العباءة -من الأسفل والأعلى- مشكوك النجاسة من أوّل الأمر، فلا يقال أنّ هذا الطرف كان نجساً، والآن كما كان. وأما القدر الجامع بين الأسفل والأعلى فلا تتعلق به النجاسة لِما عرفت أنها من سنخ الأعراض الخارجية فلا بدّ من فرض وجود الموضوع في الخارج فلا تتعلق بالكلّي.
وأما الاستصحاب بمفاد كان التامّة بأن يقال أنّ النجاسة في العباءة كانت موجودة وقد شكّ في بقائها فالآن كما كانت فهو وإنْ كان جارياً لتمامية أركانه من اليقين السابق والشكّ اللاحق ولكنه لا يجدي في الحكم بنجاسة الملاقي (بالكسر) إلّا على القول بالأصل المثبت، إذْ يلزم عقلاً من وجود النجاسة ثبوت الملاقاة، نعم قد يقال هناك أثر شرعيّ للاستصحاب بمفاد كان التامّة وهو المانعية عن الدخول في الصلاة بالنجاسة بناءً على ما يستفاد من الأخبار أنّ المانعية من الدخول في الصلاة بالنجاسة هي من آثار وجود النجاسة في ثوب المصلي أو بدنه بمفاد كان التامّة، وليست من آثار اتّصاف الثوب بها أو البدن. وعليه: فيجري الاستصحاب بلحاظ هذا الأثر فقط، لا بلحاظ أثر نجاسة الملاقي (بالكسر) ولا مانع من التفكيك بين الآثار بحسب ما يقتضيه الدليل.
والخلاصة: أنّ الحكم بنجاسة الملاقي (بالكسر) متوقف على جريان الاستصحاب بمفاد كان الناقصة وقد عرفت عدم جريانه هنا لعدم الحالة السابقة له، وأما جريانه بمفاد كان التامّة وإنْ كان تامّاً لتمامية أركانه، إلا أنه لا يترتب عليه نجاسة الملاقي (بالكسر) إلّا على القول بالأصل المثبت.
وممّا ذكرنا تندفع الشبهة العبائية ونحكم بعدم نجاسة الملاقي. والله العالِم.
وأما القسم الثالث من استصحاب الكلّي: وهو ما إذا كان الشكّ في بقائه لأجل احتمال قيام فردٍ آخرٍ مقام الفرد الذي كان الكلّي في ضمنه مع القطع بارتفاعه، وهو على قسمين:
القسم الأوّل: ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلّي لاحتمال وجود فردٍ آخرٍ مقارناً لوجود الفرد المعلوم، كما إذا احتمل وجود عَمرو في الدار في حال وجود زيدٍ فيها.
القسم الثاني: ما إذا كان الشكّ في بقائه لأجل احتمال وجود فردٍ آخرٍ مقارناً لارتفاع الفرد المعلوم، كما إذا احتمل وجود عَمرو في الدار مقارناً لخروج زيد منها بحيث لم يجتمع وجودهما في الدار، وقلنا سابقاً أنً هذا يتصور على وجهين:
أحدهما: أن يكون الحادث المحتمل فرداً آخر مبايناً في الوجود للفرد المعلوم وإنْ اشتركا في النوع كالمثال المتقدم.
ثانيهما: أن يكون الحادث المحتمل مرتبة أخرى من مراتب المعلوم الذي ارتفع، كما إذا احتمل قيام السواد الضعيف مقام السواد الشديد عند ارتفاع السواد الشديد.
هذه هي الأقسام والوجوه المتصوَرة في القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.
وفي جريان الاستصحاب في الجميع أو عدم جريانه في الجميع أو التفصيل بين الوجه الثاني من القسم الثاني فيجري فيه الاستصحاب –كما هو الانصاف على حسب ما يأتي إن شاء الله تعالى- وبين القسم الأول والوجه الأول من القسم الثاني فلا يجري فيه الاستصحاب.
وقبل أن نبيّن هذه الأقسام والوجوه نقول: إنّ الشيخ الأنصاري (رحمه الله) اختار جريان الاستصحاب في القسم الأول وهو ما كان احتمال وجود الفرد الآخر مقارناً لوجود الفرد المعلوم، قال (رحمه الله) ما لفظه: «وأما الثالث -وهو ما إذا كان الشكّ في بقاء الكلي مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر غير الفرد المعلوم حدوثه وارتفاعه- فهو على قسمين، لأن الفرد الآخر: إما أن يحتمل وجوده مع ذلك الفرد المعلوم حاله. وإما أن يحتمل حدوثه بعده، إما بتبدله إليه وإما بمجرد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد. وفي جريان استصحاب الكلي في كلا القسمين، نظرا إلى تيقنه سابقا وعدم العلم بارتفاعه، وإن علم بارتفاع بعض وجوداته وشك في حدوث ما عداه، لأن ذلك مانع من إجراء الاستصحاب في الأفراد دون الكلي، كما تقدم نظيره في القسم الثاني. أو عدم جريانه فيهما، لأن بقاء الكلي في الخارج عبارة عن استمرار وجوده الخارجي المتيقن سابقا، وهو معلوم العدم، وهذا هو الفارق بين ما نحن فيه والقسم الثاني، حيث إن الباقي في الآن اللاحق بالاستصحاب هو عين الوجود المتيقن سابقا. أو التفصيل بين القسمين، فيجري في الأول، لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق هو عين الموجود سابقا، فيتردد الكلي المعلوم سابقا بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه، وأن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك حقيقة إنما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي، واستصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلي. وجوه، أقواها الأخير»[1]. (انتهى كلامه)
أما مناقشة الشيخ الأنصاري (رحمه الله)، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فرائد الأصول: ج3، ص195.