الدرس 587 _ قواطع الصلاة 3
كان الكلام في الروايتين اللتين استدل بهما على عدم بطلان الصلاة بالحدث.
ويرد عليهما:
أولاً -مضافاً لضعف الثانية سنداً-: أنَّهما معارَضتان في خصوص موردهما بصحيحة عليّ بن جعفر عن أخيه قال: «وسألته عن رجلٍ وجد ريحاً في بطنه، فوضع يده على أنفه، وخرج من المسجد حتَّى أخرج الرِّيح من بطنه، ثمَّ عاد إلى المسجد فصلَّى، فلم يتوضأ، هل يجزيه ذلك؟ قال: لا يجزيه حتى يتوضأ، ولا يعتدّ بشيءٍ مما صلَّى»[1]، وهي وإن كانت ضعيفةً في كتاب قرب الإسناد بعبد الله بن الحسن، فإنَّه مهمل، إلَّا أنَّها صحيحة لوجودها في كتاب عليّ بن جعفر.
وثانياً: أنَّ موردهما «العمد»، لا من «سبقه الحدث» كما هو محلّ الكلام، لورودهما في مَنْ وجد في بطنه تلك الأشياء من غَمْز أو أذًى أو ضربان، وهذه الأمور ليست حدثاً اتّفاقاً. وجعلها كنايةً عن إرادة حدوث الحدث المسبب عن هذه الأمور خلاف الظاهر. وعليه، فالمراد بالانصراف الوارد في صحيحة الفضيل ليس إلا الانصراف لقضاء حاجة، فيكون موردها ومورد الرِّواية الثانية «العمد»، لا من «سبقه الحدث»، ولم ينقل القول بمضمونهما عن أحد منّا.
وثالثاً: موافقتهما للعامَّة، إذ المحكي عن الشافعي في القديم، وأبي حنيفة وابن أبي ليلى وداود: الوضوء، ثمَّ البناء في صورة السَّبق، بل المحكي عن الشافعي منهم: أنَّ له إخراج الحدث بعد ذلك اختياراً، ثمَّ الوضوء والبناء.
ورابعاً: اشتمال الثانية على سهو النَّبيّ (صلى الله عليه وآله)، وهذا ممَّا لا يمكن الالتزام به.
وخامساً: اشتمالهما معاً على بعض الأمور التي لا يمكن القبول بها، وهو حصرهما النقض بالكلام فقط، مع الرّخصة بالرّجوع إلى مصلّاه الذي قد يستلزم فعلاً كثيراً ومحواً لصورة الصَّلاة، والتفاتاً عن القبلة، وغير ذلك.
والخلاصة: أنَّ المتعيِّن هو القول بالبطلان فيمَنْ سبقه الحدث، كالمتعمد والسَّاهي، والله العالم.
وأما الأمر الرابع: وهو المتيمّم الذي يسبقه الحدث في أثناء الصلاة ويجد الماء، فهل تبطل، أم أنَّه يتوضَّأ ويبني على ما أتى ويكمل الباقي؟
أقول: قد ذكرنا هذه المسألة بالتفصيل في مبحث التيمّم عند قول المصنِّف (رحمه الله): ولو أحدث المتيمّم في الصلاة ووجد الماء تطهَّر وبنى إن كان الحدث نسياناً عند الشّيخين والرِّواية الصَّحيحة مطلقة، وعليها الحَسن، وبيَّنا فيها ما هو الإنصاف، وهو بطلان الصَّلاة، فراجع[2].
وأما الأمر الخامس: ما حكي عن الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) أنَّه قال: إنَّ الحدث الواقع بعد رفع الرأس من السّجدة الأخيرة لا يبطل الصَّلاة.
قال الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه: «إن رفعت رأسك من السجدة الثانية في الركعة الرابعة وأحدثت فإن كنت قلت الشهادتين فقد مضت صلاتك، وإن لم تكن قلت ذلك فقد مضت صلاتك فتوضأ ثم عد إلى مجلسك وتشهد»[3]. (انتهى كلامه)
وعن صاحب البحار (رحمه الله) أنَّه قال -بعد نقل قول الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله)- : «ويشمل ظاهر كلامه العمد أيضاً، ولا يخلو من قوّة»[4]. (انتهى كلامه)
أقول: قد يستدلّ لهذا القول -أي قول الشيخ الصدوق- بجملة من الرّوايات:
منها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «في الرَّجل يحدث بعد أن يرفع رأسه في السّجدة الأخيرة، وقبل أن يتشهد، قال: ينصرف فيتوضأ، فإن شاء رجع إلى المسجد، وإن شاء ففي بيته، وإن شاء حيث شاء قعد، فيتشهد ثمَّ يسلم، وإن كان الحدث بعد الشهادتين فقد مضت صلاته»[5]
ومنها: موثَّقة عبيد بن زرارة قال: «قلتُ لأبي بعد الله (عليه السلام): الرَّجل يُحدِث بعدما يرفع رأسه من السُّجود الأخير، فقال: تمّت صلاته، وأمَّا التشهّد سنة في الصَّلاة، فيتوضأ، ويجلس مكانه، أو مكاناً نظيفاً، فيتشهد»[6].
ومنها: موثّقته الأخرى عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سألته عن رجلٍ صلَّى الفريضة، فلمَّا فرغ ورفع رأسه من السَّجدة الثانية من الرِّكعة الرابعة أحدث، فقال: أمَّا صلاته فقد مضت، وبقي التشهّد، وإنّما التشهُّد سنّة في الصَّلاة، فليتوضّأ، وَلْيعد إلى مجلسه، أو مكان نظيف فيتشهّد»[7].
ومنها: رواية ابن مسكان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «سُئل عن رجلٍ صلَّى الفريضة فلمَّا رفع رأسه من السَّجدة الثانية من الرِّكعة الرَّابعة أحدث، فقال: أمَّا صلاتهم (صلاته) فقد مضت، وأمَّا التشهُّد فسنَّة في الصَّلاة، فَلْتيوضأ وليعد إلى مجلسه، أو مكان نظيف فيتشهّد»[8]، هذه الرِّواية ضعيفة بمحمَّد بن سنان.
قالوا: ولا يعارض هذه الرِّوايات الدَّالة على صحَّة الصَّلاة -إن صدر الحدث قبل التشهُّد بعد السّجدة الأخيرة-: رواية ابن الجهم الدَّالة على عدم الصّحّة إن صدر الحدث بعد السّجدة الأخيرة، قبل التشهُّد قال: «سألتُه -يعني أبا الحسن (عليه السلام)- عن رجلٍ صلَّى الظُّهر أو العصر، فأحدث حين جلس في الرّابعة، قال: إن كان قال: أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمداً رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فلا يعيد، وإن كان لم يتشهّد قبل أن يحدث فَلْيعد»[9]، وذلك لضعفها سنداً بعدم وثاقة عبَّاد بن سليمان، ووجودُه في كامل الزِّيارات لا ينفع، لعدم كونه من مشايخ المباشرين، مع إمكان حمل الأمر بالإعادة على الاستحباب.
ولا يعارضها أيضاً رواية الخصال في حديث الأربعمائة بإسناده عن عليّ (عليه السلام) قال: «إذا قال العبد في التشهُّد الأخير هو جالس: أشهد أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وأنَّ السَّاعة آتية لا ريب فيها، وأنَّ الله يبعث من في القبور، ثمَّ أحدث فقد تمَّت صلاته»[10]، حيث إنَّها دالَّة بمفهوم الشَّرط على عدم الصّحّة إذا أحدث قبل التشهُّد وإن كان بعد الركعة الأخيرة.
ووجه عدم معارضتها للرِّوايات السابقة: هو أنَّها ضعيفة بالقاسم بن يحيى، وجده الحسن بن راشد، فإنَّهما غير موثّقين. وأما الحسن بن راشد أبو عليّ البغدادي الذي هو من أصحاب الإمام الجواد (عليه السلام) فهو ثقة.
أما الإنصاف في المسألة، فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب قواطع الصلاة، ح8.
[2] كتابنا مسالك النفوس إلى مدارك الدروس: كتاب الطهارة، المجلد السادس، ص591. (إضغط لتحميل الكتاب)
[3] من لا يحضره الفقيه: ج1، ص356.
[4] بحار الأنوار: ج81، ص282.
[5] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب التشهد، ح1.
[6] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب التشهد، ح2.
[7] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب التشهد، ح4.
[8] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب التشهد، ح3.
[9] وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب قواطع الصلاة، ح6.
[10] وسائل الشيعة: باب 13 من أبواب التشهد، ح5.