الدرس 177 _ الإستصحاب 38
لا زال الكلام في القاعدة المعروفة: العقود تابعة للقصود، وقلنا أنّ هذه القاعدة وإنْ كانت مسلّمة –أي أن العقود تابعة للقصود- إلا أنّ الفقهاء ذكروا خمسة موارد تخلفت فيها هذه القاعدة.
المورد الأول: في البيع المعاطاتي حيث قالوا بأنه لا يفيد الملكية وإنما يفيد الإباحة فقط، والإباحة غير مقصودة فكيف تحققت.
ولكن على مبنانا أنه لا تخلّف، لأن البيع المعاطاتي عندنا يفيد الملكية.
المورد الثاني: لو نسي ذكر الأجل والمدّة في عقد الانقطاع، حيث ذهب المشهور إلى انقلابه دواماً مع أن الدوام غير مقصود، واستدلوا على الانقلاب بالإجماع، واستدل بعضهم بأنّ الانقطاع والدوام ليسا نوعين وحقيقتين مختلفتين، بل كلاهما عبارة عن العلاقة الخاصّة مع بض الفروقات الخارجة عن حقيقة النكاح.
ولكن على مبنانا لا يوجد تخلّف، لأنه إذا نسيَ ذكر الأجل يبطل العقد.
المورد الثالث: ما لو تخلّف الوصف حيث قالوا بصحة المعاملة، غاية الأمر أنّ تخلّف الوصف مثل تخلّف الشرط يوجب الخيار، فلو قال بعتك هذا العبد الكاتب فظهر أنه ليس بكاتب لصحّ البيع وثبت الخيار، مع أن ما وقع لم يقصد وما قُصد لم يقع.
وما ذكروه صحيح.
المورد الرابع: إذا طلّق خُلعياً وكانت شرائط الخلع غير متوفرة، فقالوا ينقلب رجعياً -إذا أمكن كونه رجعياً- مع أنّ الطلاق الرجعي غير مقصود. وقد يقال أنّ الطلاق حقيقة واحدة وليسا هما نوعين.
ومهما يكن فإنه عندنا ينقلب رجعياً وهذا من موارد تخلّف القاعدة.
المورد الخامس: إذا طلق رجعياً ثمّ وطئها بقصد عدم الرجوع، فقالوا بتحقق الرجعة بذلك مع أنّ الرجوع غير مقصود.
أقول: هذا هو الصحيح، وذلك لصحيحة محمد بن القاسم عن أبي عبد الله (عليه السلام): «من غَشِيَ امرأته بعد انقضاء العدّة جُلِد الحدّ، وإن غَشِيَها قبل انقضاء العدّة كان غشيانه إياها رجعة»[1]. ومقتضى الإطلاق تحقق الرجوع بالوطىء وإن قصد العدم.
والحاصل: أنّ ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري (رحمه الله) لم يكتب له التوفيق، إذ لا مانع من كون تلك العناوين متأصّلة بالجعل في وعاء الاعتبار ويكون وجودها التكويني بعين وجودها الاعتباري، ومما يدلّ على ذلك أيضاً هو أنّ مثل هذه الاعتباريات متداولة عند من لم يلتزم بشرعٍ وشريعةٍ كالدهريّ مع أنه ليس عنده إلزامٌ وتكليفٌ يصحّ انتزاع هذه الأمور منه، والله العالِم.
ومن جملة الأحكام الوضعية: الصحة والفساد.
وقبل البحث عن كونهما مجعولتَين أو ليستا مجعولتَين أو يًفَصّل بين العبادات والمعاملات بالالتزام بعدم الجعل في الأولى والجعل في الثانية، نقول:
ذكرنا في مبحث الصحيح والأعمّ: أنّ صاحب الكفاية (رحمه الله) استظهر من كلام الأعلام: أنّ الصحّة لديهم بمعنى واحد وهو تمامية الأجزاء والشرائط، وخلافه الفساد. أما تعريف الصحة بإسقاط القضاء كما عن الفقهاء، وموافقة الأمر والشريعة كما عن المتكلمين فهو تعريفٌ باللازم، وبيّنا في محله أنه لمّا كان غرض الفقهاء من تصحيح فعل المكلف هو إثبات عدم وجوب الإعادة والقضاء فعرّفوها باللازم الملائم لغرضهم وهو إسقاط القضاء؛ وأمّا المتكلمون فلمّا كان غرضهم من تصحيح فعل المكلف هو إثبات موافقته لأمر الشارع بحيث يترتب عليه الثواب، كما أنّ عدم الموافقة يترتب عليه العقاب فعرّفوا الصحة باللازم الملائم لغرضهم.
والنسبة بين معنى الصحّة عند الفقهاء وعند المتكلمين: هي العموم والخصوص من وجه:
يجتمعان في صلاة المختار فإنها صحيحة عند الفقهاء لعدم وجوب القضاء، كما أنها صحيحة عند المتكلمين لموافقتها للشريعة.
وقد تكون صحيحة عند الفقهاء وليست صحيحة عند المتكلمين كما لو جهر المكلف نسياناً أو جهلاً في الصلاة الإخفاتية أو أخفى في الصلاة الجهرية كذلك، فهي صحيحة عند الفقهاء لعدم وجوب الإعادة لصحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «في رجلٍ جهر فيما لا ينبغي الإجهار فيه وأخفى فيما لا ينبغي الإخفات فيه، فقال: أيّ ذلك فعل متعمداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة، فإن فعل ذك ناسياً أو ساهياً أو لا يدري فلا شيء عليه وقد تمّت صلاته»[2]. وأما المتكلمون فالصحة عندهم هي غير منطبقة في المقام لأنها غير موافقة للأمر.
وقد يكون العمل صحيحاً عند المتكلمين وفاسداً عند الفقهاء كما في موارد بحث الإجزاء، فلو قامت الأمارة على عدم وجوب السورة فصلّى المكلف بمقتضاها ثمّ انكشف الخلاف فهنا تصحّ الصلاة عند المتكلمين لأنها جاءت وفق الأمر –أي وفق الأمارة- بينما لا تصحّ عنج الفقهاء لانكشاف الخلاف في الواقع، هذا مع قطع النظر عن صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): «لا تعاد الصلاة إلا من خمسة...»، وإلا فبناءً عليه فالصلاة صحيحة عندهم فلا تجب إعادتها ولا قضاؤها.
ثمّ إنّ الصحة والفساد أمران إضافيّان فيختلف شيءٌ واحدٌ صحةً وفساداً بحسب الحالات، فصلاة المسافر صحيحة للمسافر وفاسدة للحاضر، وكذا الصلاة من جلوس صحيحة للعاجز عن القيام وفاسدة للقادر عليه، وهكذا.
إذا عرفت ذلك فنقول:
تارة يكون الصحيح بمعنى كون الشيء واجداً للخصوصية التي ينبغي أن يكون واجداً لها بحسب طبعه الأصلي، كما يقال أنّ هذا الخلّ صحيح بمعنى كونه واجداً للخصوصية التي يقتضيها طبع الخلّ، ويقابله الفاسد وهو الفاقد لتلك الخصوصية، وكذا يقال أنّ هذه الصلاة صحيحة أي كونها واجدة للخصوصية التي ينبغي أن تكون الصلاة واجدة لها من الملاك والمصلحة القائمة بها، ويقابلها الفاسدة وهو كون الصلاة فاقدة لتلك الخصوصية. والصحة والفساد بهذا المعنى ينتزعان عن مقام الذات قبل تعلّق الأمر بها، وتكون تلك الخصوصية منشأ لتعلّق الأمر بالذات، وعلى هذا تكون الصحة من الدواعي وعلل التشريع غير منتزعة من التكليف المتأخّر عنها، والصحة والفساد بهذا المعنى خارجان عن محل النزاع وليستا من الأحكام الوضعية الشرعية، ولا ينطبق عليهما تعريف الفقهاء ولا تعريف المتكلمين، وهما من الأمور المجعولة بتبع جعل الذات تكويناً.
وأخرى يراد من الصحيح كون الشيء موافقاً لما تعلّق به التكليف أو الاعتبار فيقال أنّ هذه الصلاة صحيحة أي أنها موافقة للمأمور به، وهذا العقد صحيح أي أنه موافق لِما اعتبر في موضوع الملكية مثلاً، ويقابله الفاسد وهو عدم كونه موافقاً للمأمور به أو لموضوع الأمر الاعتباري، وهما بهذا المعنى داخلان في محلّ الكلام.
أما الإنصاف في المقام فيأتي في الدرس القادم إن شاء الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] وسائل الشيعة: باب 29 من أبواب حدّ الزنا، ح1.
[2] وسائل الشيعة: باب 26 من أبواب القراءة في الصلاة، ح6.