الدرس 77 _ تنبيهات العلم الجمالي 23
[أصالة الاشتغال: تنبيهات العلم الإجمالي]
[التنبيه الخامس: هل العلم الاجمالي منجّز فيما إذا تعلّق بالأمور التدريجيّة]
إذا عرفت ذلك، فنقول: عندنا ثلاث صور:
الصورة الأولى: أن يكون للزمان الذي هو ظرف وقوع المشتبه دخل في التكليف خطاباً وملاكاً، كالأحكام المترتّبة على الحيض، فإنّ الحيض هو الدم الذي تراه المرأة في أيّام العادة، ولزمان العادة دخل في ثبوت تلك الأحكام ملاكاً وخطاباً.
الصورة الثانية: أن لا يكون للزمان دخل في التكليف لا ملاكاً ولا خطاباً، وإنّما يكون الزمان ظرفاً لوقوع المشتبه خارجاً، من باب أنّ كلّ فعل لا بدّ وأن يقع في الزمان من دون أخذه في موضوع التكليف شرعاً، كحرمة الغيبة، والكذب، والربا، ونحو ذلك.
الصورة الثالثة: أن يكون للزمان دخل في الامتثال والخروج عن عهدة التكليف، من دون أن يكون له دخل في الملاك والخطاب، كما لو نذر المكلّف ترك وطئ الزوجة في يوم معيّن، واشتبه بين يومين، فإنّ التكليف بترك الوطئ يكون فعلياً بمجرّد انعقاد النذر، والزمان إنّما يكون ظرفاً للامتثال.
أمّا الصورة الأوّلى، وهي ما لو كان للزمان دخل في كلّ من الملاك والخطاب:
فقد حكي عن الشيخ (رحمه الله) عدم تأثير العلم الاجمالي، ويجوز حينئذٍ المخالفة القطعية، لأنّ الأصول النافية للتكليف تجري في الأطراف بلا تعارض، فإنّه لو كان أيام الحيض آخر الشهر، فالتكليف بترك الوطئ والصلاة ودخول المساجد ونحو ذلك لا يكون فعلياً من أوّل الشهر، لأنّ لزمان العادة دخلاً في تلك الأحكام خطاباً وملاكاً، فأصالة عدم الحيض في آخر الشهر لا تجري من أوّل الشهر حتى تعارض بأصالة عدم الحيض في أوّله، بل في أوّل الشهر يجري الأصل المختصّ به، وهو أصالة عدم الحيض، كما أنّه لمّا يصبح في آخر الشهر يجري الأصل المختصّ به، وهو أصالة عدم الحيض، لعدم المعارض له، لأنّ الحيض في أوّل الشهر لا يمكن الابتلاء به في آخره، فللزوج ترتيب آثار الطهر في أوّل الشهر.
غايته، أنّه بعد انقضاء الشهر يعلم بمخالفة الواقع ووقوع الوطئ في الحيض، ولكن العلم بالمخالفة في الزمان الماضي لا يمنع عن جريان الأصل في ظرف احتمال التكليف، لأنّه لا دليل على حرمة حصول العلم المخالفة للواقع، حتى يقال: إنّه يجب ترك الوطئ في أوّل الشهر وآخره مقدمة لعدم حصول العلم بالمخالفة فيما بعد، لأنّ الثابت من حكم العقل هو قبح المخالفة والعصيان إذا كان الفاعل ملتفتاً حال العمل أو قبله إلى كون العمل مخالفاً للتكليف وعصياناً له. وأمّا العلم بتحقق المخالفة لخطاب آخر لم يتنجّز في ظرفه، فلا قبح فيه لا شرعاً ولا عقلاً.
أقول: هذا الكلام إنّما يتمّ بناءً على استحالة الشرط المتأخّر، إذ عليه لا يكون التكليف فعلياً من الآن، فلا مانع حينئذٍ من جريان الأصل النافي للتكليف. وأمّا على القول بإمكانه ووقوعه، فلا محذور حينئذٍ، لأنّ التكليف من الآن فعلياً، فجريان أصالة عدم الحيض من أوّل الشهر يتعارض مع جريان أصالة عدم الحيض في آخره، وبعد التساقط لا بدّ من الاجتناب عن الأحكام المترتّبة على الحيض.
لكن على ما اخترناه سابقاً من استحالة الشرط المتأخّر، يكون كلام الشيخ الأنصاري في محلّه، إذ لا معارض لجريان الأصل في كلّ من الطرفين، لعدم فعليّة التكليف في آخر الشهر من الآن.
ولكن الإنصاف مع ذلك: أنّه لا يجوز الرجوع إلى الأصل في شيء من الطرفين، وذلك لاستقلال العقل بقبح تفويت الملاك الملزم في ظرفه بتعجيز النفس قبل مجيء وقته، كاستقلاله بقبح تعجيز النفس عن امتثال التكليف الفعلي. وبالجملة، فالعلم الاجمالي المزبور يرجع مع هذا الحكم العقلي إلى العلم بلزوم أحد الأمرين عليه، ومعه لا يبقى مجال لجريان الأصول النافية للتكليف في الأطراف كي ينتهي الأمر إلى جواز المخالفة القطعية.
وأمّا الصورة الثانية، وهي التي لا يكون للزمان دخل في التكليف لا ملاكاً ولا خطاباً، وإنّما يكون الزمان ظرفاً لوقوع المشتبه خارجاً:
فالمعروف بين الأعلام، أنّه لا إشكال في تأثير العلم واقتضائه الموافقة القطعية، فلو علم المكلّف أنّ بعض معاملاته في هذا اليوم أو الشهر تكون ربويّة، فيلزمه التحرّز عن كلّ معاملة يحتمل كونها ربوية تحصيلاً للموافقة القطعية، فإنّ الشخص من أوّل بلوغه يكون مكلّفاً بترك المعاملة الربوية صباحاً ومساءاً في أوّل الشهر وآخره، والتكليف بذلك يكون فعلياً من ذلك الزمان غير مشروط بزمان خاص، كالنّهي عن الغيبة والكذب.