الدرس 178_في المناهي وهي على أقسام ثلاثة (10).ثانيها: ما نهي عنه لعارض
الدرس 178 / الثلاثاء: 18-أيار-2021
الأمر الثَّاني: أنَّ الحرمة أو الكراهة مشروطة بعدَّة شروط:
منها: أن يكون الخروج بقصد ذلك، فلو خرج لا له، فاتَّفق قدوم الرَّكب، لم يثبتِ الحكم.
ومنها: تحقُّق مسمَّى الخروج مِنَ البلد، فلو تلقَّى الرَّكب في أوَّل وصوله إلى البلد لم يثبتِ الحكم.
نعم، لو دَخَل بعضُ الرَّكب، فتلقَّى البعض الآخر، لم يبعد ثبوت الحكم؛ لِصِدْق التَّلقِّي حينئذٍ.
ومنها: اعتبار ما دون الأربعة فراسخ، كما تقدَّم.
ومنها: ما ذكره جماعة مِنَ الأعلام، وهو جَهْل الرَّكب بسعر البلد فيما يبيعه ويشتريه، فلو علم بهما أو بأحدهما، لم يثبتِ الحكم فيه.
وفيه: أنَّه لا دليل على هذا الشَّرط، ولم يُعْلم أنَّ الحكمة في النَّهي عَنِ التَّلقي هي مراعاة حال الرَّكب خاصَّة، بلِ الأعمُّ من ذلك ومن حال أهل البلد.
وعليه، فالأَوْلى تعميم الحرمة أوِ الكراهة لحالَيْ العلم بالسعر وعدمه.
ومنها: ما ذَكَره بعضهم: «من أنَّ التَّلقِّي إنَّما هو للبيع عليه، أو الشِّراء منه، فلو خرج لغيرهما مِنَ المقاصد ولو في بعض المعاملات، كالإجارة لم يثبت الحكم، وفي إلحاق الصُّلح، ونحوه من عقود المغابنات احتمال؛ لِلْعلَّة وعدمه؛ اقتصاراً فيما خالف الأصل على المتيقَّن...».
أقول: الأقرب: الاقتصار على البيع عليه أوِ الشِّراء منه؛ وذلك لأنَّ الرِّوايات، وإن كان في بعضها ما يدلُّ على التَّعميم لغير البيع والشِّراء، كما في رواية عُرْوة بن عبد الله: «لا يتلقَّى أحدُكُم تجارةً خَاْرِجاً مِنَ المِصْرِ...»، والتِّجارة تشمل جميع المعاوضات، إلاَّ أنَّها ضعيفة، كما عرفت.
والعمدة: هو التَّسالم، وهو دليل لُبِّي يُقتَصر فيه على القدر المتيقَّن، وهو خصوص البيع عليه أوِ الشِّراء منه.
الأمر الثَّالث: المعروف بين الأعلام أنَّه لو خالف وتلقَّى وباع واشترى، انعقد البيع، وكان صحيحاً، سواء أقلنا: بحرمة التَّلقي أم بكراهته، وعن ظاهر المنتهى اتِّفاق العلماء على ذلك.
وحكى المصنِّف (رحمه الله) عن ابن الجنيد (رحمه الله) أنَّه أبطله، وهو ضعيف جدّاً؛ لأنَّ النَّهي:
أوَّلاً: لم يتعلَّق بنفس المعاملة؛ وإنَّما تعلَّق بالتَّلقِّي.
وثانياً: أننا لو سلَّمنا بتعلق النهي بنفس المعاملة؛ إلاَّ أنَّه نهيٌ مولويٌّ، لا إرشاديٌّ حتَّى يقتضي الفَسَاد.
ثمَّ إنَّ المشهور بين الأعلام أنَّه لا خيار للبائع، إلاَّ أن يثبت الغبن، خلافاً للمصنِّف وابن إدريس t، حيث ذهبا إلى ثبوت الخيار مطلقاً.
قال المصنف (رحمه الله): «ويتخيَّر الرَّكب، وفاقاً لابن إدريس، لِما رُوِي عَنِ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله): فيمَنْ تلقَّى، فصاحب السِّلعة بالخيار، ومَعَ الغَبْن يقوى ثبوته...».
وفيه أوَّلاً: ما ذكرناه سابقاً، من أنَّ هذه الرِّواية نبويَّة ضعيفة جدّاً لا يعوَّل عليها، ولا يمكن التَّمسُّك بإطلاقها، أي سواء أكان هناك غَبْن أم لا.
وثانياً: أنَّه يظهر مِنَ النَّبويِّ الآخر «لَاْ تلقَّوا الجَلْبَ فمَنْ تلقَّاه واشْتَرى مِنْه فصَاحِبُ السِّلْعَةِ بالخِيَار إذا وَرَدَ السَّوقَ»، أنَّه لا خيار له من حين البيع، وإنَّما جُعِل الخيار له إذا أتى السُّوق لأجل اكتشاف الغبن في السُّوق، لا مطلقاً.
والخلاصة: أنَّ الأصل في العقود اللُّزوم.
نعم، إذا كان هناك غبن، فيثبت له خيار الغَبْن.
ثمَّ إنَّ الاقتصار في الخيار على البائع إنَّما هو من جهة الغَلَبة، أي أنَّ الغالب أنَّ الرَّكب البائع للسِّلعة يكون جاهلاً بالثَّمن، وإلاَّ فلا فرق بين البائع والمشتري مع فرض حصول شرط خيار الغَبْن مِنَ الجهل بالقيمة، وعدم إسقاطه بالشَّرط، أو غيره، فلو كان المشتري هو المغبون لكان له الخيار.
وهل الخيار على الفور، أو على التَّراخي؟
فالمشهور بين الأعلام أنَّه على الفور، ومنهم المصنِّف (رحمه الله) هنا، وفي باب الخيارات، خلافاً لجماعة منهم، حيث قالوا: إنَّه على التَّراخي، وسيأتي تحقيقه بالتفصيل إن شاء الله تعالى عند تعرُّض المصنِّف (رحمه الله) له في مبحث الخيارات، حيث قال هناك «وسادسها: خيار الغبن، وهو ثابت في قول الشَّيخ وأتباعه لكلٍّ مِنَ المشتري والبائع إلى أن قال: والأصحُّ: ثبوته، وفوريَّته متى علم به وبحكمه».
وسيتضح لك إن شاء الله تعالى أنَّه على الفور، وفاقاً للمصنِّف (رحمه الله)، ومشهور العلماء.
ولكنَّ المراد مِنَ الفوريَّة هو عدم صِدْق التَّواني عند العرف، وهذا يختلف باختلاف الموارد، فلو علم بالغَبْن ليلاً، وأخَّره إلى ما قبل الظُّهر من ذلك اليوم، فلا يكون مُتَوانياً، وهذا بخلاف ما لو علم به في اليوم، وأخره إلى اليوم الثَّاني، أوِ الثَّالث، فإنَّه مِنَ التَّواني عند العرف، والله العالم والهادي.