الدرس 1209 _كتاب الصوم 9
......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بل في الجواهر: «بل لم أجد فيه خلافاً بين القائلين بعموم المُفطِّر للمعتاد وغيره إلاَّ من المصنِّف في المُعتبر فتردَّد فيه، كما اعترف بذلك الفاضل في الرِّياض، بل ظاهر الغُنية والتَّنقيح وصريح السَّرائر ومحكيّ نهج الحقّ الإجماع عليه...»[1].
ويظهر من عدم تعرُّض الشَّيخ الصَّدوق والسّيِّد والشَّيخ في المصباح وسلاَّر (رحمهم الله) لمُفطِّريّة إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق أنَّه غير مُفطِّر.
ثمَّ إنَّه قدِ استُدلّ للقول بالمُفطِّريّة بجملة من الأدلَّة:
منها: الإجماع المدَّعى من بعض الأعلام.
وفيه: ما عرفته في أكثر من مناسبة من أنَّ الإجماع المنقول بخبر الواحد غير حُجّةٍ، لاسيّما أنَّه مدركيّ أو محتمل المدركيّة، فلا يكون إجماعاً تعبُّديّاً كاشفاً عن قول المعصوم (عليه السلام).
ومنها: أنَّه أوصل إلى جوفه ما يُنافي الصَّوم، فيكون مُفسداً له.
وفيه: أنَّنا نمنع من كون مُطلق الإيصال مُفسداً، بل المُفسد هو الأكل والشُّرب وما في معناهما من البلع والتّجرُّع ونحوهما ممَّا لا يصدق عليه عرفاً اسم الأكل والشُّرب، ولكن يُفهم المنع عنه عرفاً من النَّهي عنهما، وليس إيصال الغبار الغليظ إلى الحلق كذلك.
ومنها: رواية سُليمان بن حفص المَرْوزيّ «قَاْل: سمعتُه يقول: إذا تمضمض الصَّائمُ في شهرِ رمضان، أوِ استنشقَ مُتعمِّداً، أو شمّ رائحةً غليظة، أو كنس بيتاً، فدخل في أنفه وحلقه غُبار، فعليه صوم شهرَيْن متتابعَيْن، فإنَّ ذلك له مُفطِّرٌ مثل الأكل والشُّرب والنِّكاح»[2].
وقد أُشكل على هذه الرِّواية بعدَّة إشكالاتٍ:
منها: أنَّها ضعيفة سنداً من جهة جهالة الرَّاوي، وهو سُليمان بن حفص المَرْوزيّ، وكونه في كامل الزِّيارات لا ينفع؛ لعدم كونه من المشايخ المباشرين لابن قولويه (رحمه الله).
وكذلك من جهة الإضمار؛ إذ لم يُعرف مَنْ هو المسؤول.
وأجاب صاحب الجواهر (رحمه الله) عن إشكال الإضمار بقوله: «وإضماره بعد معلوميّة عروضه من تقطيع الأخبار لا من أصل الرِّواية، كما بُيِّن في محلّه غيرُ قادحٍ...»[3].
وفيه: أنَّه لو ثبت كون الإضمار ناشئاً من تقطيع الأخبار ومن المعلوم أنَّ تقطيع الرِّوايات حصل في زمان المحمَّدين الثَّلاثة محمَّد بن يعقوب الكُلينيّ، ومحمَّد بن عليّ بن بابوَيْه، ومحمَّد بن الحسن الطُّوسيّ (رحمهم الله) لم يكن وجهٌ لعدّ الأصحاب الرِّوايات المُضمرة من صنف الضِّعاف.
وأجاب السّيِّد أبو القاسم الخوئيّ (رحمه الله) عن إشكال الإضمار بقوله: «أمَّا الإضمار فغير قادح بعد أن أثبتها مثل الشَّيخ في كُتُب الحديث، ولا سيَّما وأنَّه ينقلها عن كتاب الصفّار إلى أن قال: وهل يُحتمل أنّ مثل محمَّد بن الحسن الصفَّار يُورد في كتابه الموضوع للأحاديث الشَّريفة حديثاً عن غير المعصوم (عليه السلام) مضمِراً إيّاه؟!...»[4].
وفيه: أنَّه لو تمَّ هذا الكلام لجاء مثله في مُضمرات الكُلينيّ (رحمه الله) في الكافي، والشيَّخ الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه، وغيره من كُتُب الأحاديث، مع أنَّ المُضمرات منقولةٌ من أصول معروفة.
وبالجملة، لو تمَّ هذا الكلام لكانت المُضمرات مقبولةً، مع أنَّ السّيِّد الخوئيّ (رحمه الله) نفسه كثيراً ما يُناقش في الرِّوايات من حيث الإضمار.
وأمَّا قول السّيِّد محسن الحكيم (رحمه الله) في المُستمسك جواباً عن الإضمار: «إنَّ تدوين الأجلاّء لها في كُتب الحديث شهادة منهم بكونها روايةً عن المعصوم»[5].
ففيه: أنَّ تدوين الأجلاَّء لها في كُتب الأحاديث لا يُفيد إلاَّ الظَّنّ بكونها روايةً عن المعصوم (عليه السلام)، والظَّنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً.
وأجاب جماعة من الأعلام عن ضعف الرِّواية: بأنَّ ضعفها منجبرٌ بعمل المشهور.
وفيه أوَّلاً: عدم ثبوت الكُبرى، أي أنَّ عمل المشهور غيرُ جابرٍ لضعف السَّند.
وثانياً: مع قطع عن ذلك، فإنَّ عمل المشهور إنَّما يَجبر ضعف الرِّواية إذا أحرزنا أنَّها عن المعصوم (عليه السلام).
وأمَّا الرِّواية الَّتي لم تثبت نسبتها إلى المعصوم (عليه السلام)، كما لو كانت مضمرةً، كما فيما نحن فيه، فلا تنفعها الشُّهرة؛ لأنَّها غير صالحةٍ لإثبات هذه النِّسبة.
ومن هنا، قال صاحب الرِّياض (رحمه الله): «وهي لقطعها وعدم معلوميّة المسؤول عنه فيها لا تصلح للحُجيّة، وإن حصلت معها الشُّهرة؛ لأنَّها إنَّما تجبر الرِّواية المُسندة لا المقطوعة...»[6].
ويقصد بالقطع: الإضمار، وهو على خلاف الاصطلاح في علم الرِّجال؛ لأنَّ القطع في الاصطلاح لا يُطلق على الإضمار.
وثالثاً: أنَّه لو قطعنا النَّظر عن ذلك أيضاً، فإنَّ عمل المشهور إنَّما يجبر ضعف السَّند إذا أحرزنا الصُّغرى، أي أحرزنا استناد المشهور في فتواهم بذلك إلى الرِّواية، وأنَّهم عملوا بها.
وأمَّا مجرَّد مطابقة فتواهم للرِّواية، فلا يكفي ذلك، لاسيَّما أنَّ طريقة المتقدِّمين في البحث العلميّ تختلف عن طريقة المتأخِّرين، ومتأخِّري المتأخِّرين.
وممَّا يُؤكِّد عدم معلوميَّة استنادهم في الفتوى إلى الرِّواية: هو تقييد المشهور الغبار بالغليظ، مع أنَّ الرِّواية خالية عن هذا القيد.
وبالجملة، فإنَّ الاستناد في الفتوى إلى الرِّواية غيرُ محرزٍ، فكيف يتحقَّق الانجبار؟!
بل كيف يمكن أن تكون هذه الرِّواية مُستندهم في الفتوى؟! مع أنَّ أكثرهم، بل المشهور في ما بينهم ذهب إلى عدم وجوب الكفَّارة، بل القضاء خاصَّة، وهو خلاف ما صرَّحت به الرِّواية.
هذا هو الإشكال الأوَّل على الرِّواية.