الدرس 1210 _كتاب الصوم 10
......................................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الإشكال الثَّاني ما ذكره جماعة من الأعلام، ومنهم صاحب المدارك (رحمه الله) : أنَّ هذه الرِّواية مُشتملة على ما أجمع الأصحاب على خلافه من ترتُّب الإفطار والكفَّارة على مجرَّد المضمضة، والاستنشاق، وشمّ الرَّائحة الغليظة.
ولكن يمكن الجواب عن هذا الإشكال: بما ذكرناه في أكثر من مناسبة، بأنَّه لا مانع من التَّفكيك بين فقرات الرِّواية مع قيام الدَّليل والقرينة على ذلك، فتكون الرِّواية الواحدة بمنزلة الرِّوايات المُتعدِّدة.
الإشكال الثَّالث: أنَّها بناءً على اعتبارها معارَضة بموثَّقة عَمْرو بن سعيد عن الرِّضا (عليه السلام) «قَاْل: سَألتُه عَنِ الصَّائم (يُدخِن) يتدخَّنُ بعودٍ، أو بغير ذلك، فتدخلُ الدُّخْنَة في حَلْقِه؟ قَاْل: جائزٌ، لا بأس بِهِ، قال: وسألته عن الصَّائم يدخل الغبار في حلقه؟ قال: لا بأس»[1].
وقد أُجيب عن هذا الإشكال: بأنَّه يمكن الجمع بين الرِّوايتَيْن بحَمْلِ رواية سُليمان المَرْوزيّ على صورة العمد؛ بقرينة ذِكْر الكفَّارة، وقرينة ذِكْر المضمضة والاستنشاق المُقيَّد بالعمد، وحَمْلِ موثَّقة عَمْرو بن سعيد على صُورة العُذْر، أي دُخول الغُبار بنفسه، لا إيصاله إلى الحلق، ولو بفعلٍ باعث عليه.
نعم، صدرها ظاهرٌ في العمد، حيث قال: «يُدخِن (يتدخَّن) بعود...»، إلاَّ أنَّ هذا واردٌ في الدُّخان، وكلامنا في الغُبار، وقد عرفت سابقاً أنَّه يمكن التَّفكيك بين فقرات الرِّواية، لا سيَّما أنَّه فصل بينهما بقوله: «قال: وسألته...».
والخُلاصة: أنَّه لو تمَّت رواية سُليمان المَرْوزيّ، وكانت صالحةً لمعارضة موثَّقة عَمْرو بن سعيد، لكان هذا الجمع مقبولاً، ولتعيَّنَ العمل به.
ولكنَّك عرفت عدم تماميّتها، وسقوطها عن الاعتبار.
وعليه، فلا دليل على مُفطريّة الغُبار، سواء أكان غليظاً أم رقيقاً.
وممَّا يُؤكِّد عدم مُفطريَّته: صحيحة محمَّد بن مسلم المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السلام) «لا يضرّ الصَّائمُ ما صَنَعَ إذا اجْتَنَبَ ثلاثَ خصالٍ: الطَّعامَ والشَّرابَ، والنِّساءَ، والارتماسَ في الماءِ»[2]؛ إذ هي خالية عن ذِكْر الغبار، كما أنَّه ليس بأكل ولا شُرْب.
ثمَّ إنَّه على القول: ببطلان الصَّوم بإيصال الغُبار إلى الحلق، فهل يُفرَّق فيه بين الغليظ والرَّقيق؟
قال صاحب المدارك (رحمه الله): «واعلم أنَّ المُصنِّف لم يُقيّد الغُبار في هذا الكتاب بكونه غليظاً، وقد صرَّح الأكثر، ومنهم المصنِّف في المُعتبر باعتباره. ولا بأس به؛ قصراً لما خالف الأصل على موضع الوفاق إنْ تمَّ، إلاَّ أنَّ الاعتبار يقتضي عدم الفرق بين الغليظ وغيره؛ لأنَّ الغُبار نوعٌ من المتناولات، فإنْ كان مُفسداً للصَّوم أفسد قليله وكثيره، وإلاَّ لم يُفسد كذلك»[3].
وفي الجواهر: «لكن لا يخفى عليك أنَّ المتَّجه الإفطار به وإنْ لم يكن غليظاً، بناءً على أنَّ المدرك الإطلاق، بل ولو قلنا: الخبر المزبور؛ إذ هو مطلق أيضاً، ولقد أجاد في المدارك والذَّخيرة حيث قال: إنَّ الاعتبار يقتضي عدم الفرق»[4].
وأنا من جهتي أقول بناءً على المُفطِّريّة : لقد أجاد صاحب المدارك، والذَّخيرة، وصاحب الجواهر، وصاحب المسالك (رحمهم الله)، حيث قال الأخير: «لم يُقيِّد [المصنِّف] الغُبار بكونه غليظاً، كما فعله جماعة، وورد في بعض الأخبار. والظَّاهر أنَّ عدم القيد أجود؛ لأنَّ الغُبار المُتعدِّي إلى الحلق نوعٌ من المتناولات وإن كان غير معتادٍ فيحرم، ويفسد الصَّوم، وتجب به الكفَّارة، سواء في ذلك الغليظ والرَّقيق، بلِ الحُكم فيه أغلظ من تناول المأكول إذا كان غُبار ما يحرم تناوله...»[5]؛ وذلك لأنَّ النَّصّ مُطلق، ولا موجب لتقييده بالغليظ.
وعليه فبناءً على المُفطريّة لابُدّ من التّحفُّظ مع التّمكُّن منه إلاَّ مع تعسُّر التّحرُّز منه فلا يجب.
وهذا خلافاً لصاحب كشف الغطاء (رحمه الله)، حيث فرَّق بين ترك التّحفُّظ من الهواء، وبين تركه من الكنس، ونحوه، سواء كان منه أو من غيره، حيث قال (رحمه الله): «لا يلزم سدُّ الفم والأنف من غُبار الهواء، ويلزم عمَّا يحدث بكنسٍ أو نسفٍ أو تقليب طعامٍ، أو حفرِ أرضٍ، ونحوها...»[6]؛ إذ لا دليل على هذه التّفرقة.
بقي شيء في المقام: وهو أنَّه بناءً على مُفطِّريّة الغُبار الغليظ، هل يُلحق به البُخَار الغليظ، ودُخان التّنباك والتُّتن، أم لا؟
قال في المدارك: «وألحق المتأخِّرون بالغُبار الدُّخان الغليظ الَّذي يحصل منه أجزاء، ويتعدَّى إلى الحلق، وبُخار القِدر ونحوهما. وهو بعيد...»[7].
وفي كشف الغطاء بالنسبة للدُّخان، قال: «ودون الدُّخان، إلاَّ لِمَنِ اعتاده وتلذَّذ به، فقام عنده مقام القوت، فإنَّه أشدُّ من الغُبار، ودون البُخار، إلاَّ مع الغلبة والاستدامة؛ فإنَّه إذا فُقد الماء قد يقوم هذا مقامه، والأحوط: تجنُّب الغليظ منهما مطلقاً»[8].
والإنصاف بناءً على مُفطريّة الغُبار : عدم بطلان الصَّوم بهما.
أمَّا بالنِّسبة للبُخار، فلاستقرار سِيرة المسلمين على الدُّخول إلى الحمَّامات في نهار شهر رمضان من دون نكير من أحد.
أضف إلى ذلك: أنَّ التَّكليف بالاجتناب عن البُخار ولِمَنْ يدخل الحمَّام ونحوه تكليفٌ حرجيٌّ، كما هو معلوم.
وأمَّا التَّعليل: بأنَّه إذا فُقِد الماء قد يقوم هذا مقامه.
ففيه: أنَّه أقرب إلى الاستحسان منه إلى الدَّليل.
وأمَّا بالنِّسبة لدُخان التّنباك والتُّتن، فقد يُقال: إنَّ سِيرة المسلمين مُستقرَّة على الاجتناب عنه حال الصَّوم.
بل قد يُقال: إنَّه ماحٍ لصُورة الصَّوم بحسب ارتكاز المتشرِّعة.
وفيه: أنَّ استمرار السِّيرة على الاجتناب عنه إذا لم تكن متَّصلةً بزمان المعصوم (عليه السلام) ليست حُجّةً.
ومن المعلوم أنَّ الاتِّصال غيرُ محرزٍ، ولعلّ هذه السِّيرة نشأت من فتاوى الأعلام.
ومنه تعرف أنَّه غيرُ ماحٍ لصُورة الصَّوم.
وممَّا يدلُّ على عدم المُفطِّريّة: موثَّقة عَمْرُو بن سعيد المُتقدِّمة[9].
وحَمْلُها على اتِّفاق الدُّخول إلى الحَلْق، من دون القصد إلى ذلك كما عن صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث حملها على ذلك في غير محلِّه؛ لوضوح صدرها في صورة العمد، حيث قال: «يتدخَّن بعُود».
نعم، لا إشكال في حُسْن الاحتياط فيه، وفي البُخار، والغُبار، والله العالم.
[1] الوسائل باب 22 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح2.
[2] الوسائل باب 1 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح1.
[3] المدارك: ج6، ص52.
[4] الجواهر: ج16، ص235.
[5] المسالك: ج2، ص17.
[6] كشف الغطاء: ج2، ص319320.
[7] المدارك: ج6، ص5253.
[8] كشف الغطاء: ج2، ص319.
[9] الوسائل باب 22من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح2.