الدرس 142_التكسّب الحرام وأقسامه (137). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 142 / الخميس: 11-شباط-2021
الأمر السَّادس: في جواز الهديَّة للقاضي.
ثمَّ اعلم أنَّ الفرق بين الرِّشوة والهديَّة هو أنَّ كلَّ ما يُبْذل مِنَ المال لشخص للتَّوصَّل به إلى فِعْل صادر منه، ولو لمجرد كفِّ شرِّه لساناً أو يداً أو نحوهما، فهو رشوة، ولا فرق في الفِعْل الذي هو غاية للبَذْل بين أن يكون فِعْلاً حاضراً وبين أن يكون فعلاً متوقعاً، كأنْ يبذل للقاضي لأجل أنَّه لو حصل له خصم في المستقبل لحكم له أي للباذل وإن لم يكن له بالفعل خصم حاضر، ولا خصومة حاضرة.
وأمَّا الهدية، فهي كلُّ مبذول لا لغرض يفعله المبذول له، بل لمجرد التَّودُّد إليه، أو التَّقرُّب إلى الله أو لصفة محمودة فيه، ونحو ذلك.
ثمَّ إنَّ الهديَّة قد تكون متقدِّمة على الحكم، وقد تكون متأخِّرة عنه.
إذا عرفت ذلك، فنقول: أمَّا حُكْم الرِّشوة فقد تقدَّم سابقاً، وقلنا: إنَّ الرِّشوة في الحكم محرَّمة بلا إشكال، والرِّشوة في غير الأحكام ليست محرّمة، فراجع.
وأمَّا الهدية للقاضي، فإن كانت متأخِّرة عَنِ الحكم فلا إشكال فيها أصلاً بالاتِّفاق، وأمَّا إن كانت متقدِّمة عليه، فالأكثر على أنَّها لا تحرم.
وذهب جماعة من الأعلام، منهم صاحب الجواهر والشيخ الأنصاري t إلى الحرمة.
وقدِ استُدلَّ للحرمة بعدَّة أدلَّة:
منها: رواية الأصبغ بن نُبَاتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) «قال: أيَّما والٍ احتجبَ عَنْ حوائجِ النَّاسِ احتجبَ الله عَنْه يومَ القِيَامةِ وَعَنْ حوائجِه، وإنْ أَخَذَ هَدِيّةً كَاْنَ غُلُولاً، وإنْ أَخَذَ الرِّشْوَةَ فُهُو مُشْرِك»[1]f88، والغُلُول: الخِيَانة.
وفيها أوَّلاً: أنَّها ضعيفة بعدم وثاقة سعد الأسكاف، وأيضاً لم يحرز أنَّ ابن سنان الوارد في السَّند هو عبد الله الثقة، فيحتمل كونه محمَّداً الضَّعيف.
وثانياً: أنَّها خارجة عن محلِّ النِّزاع، لأنَّ محلَّ الكلام في هدايا القضاة، لا في هدايا الولاة، والمعروف بين الأعلام أنَّ هدايا الولاة جائزة، ولا إشكال فيها.
وعليه، فلو قطعنا النَّظر عن ضعف السَّند، فلا بدَّ من تأويلها، كالحَمْل على الكراهة مثلاً، ونحو ذلك.
ومنها: ما ورد من أنَّ هدايا العمَّال غُلُول أو سُحْت، كما في آداب القاضي من كتاب المبسوط للشَّيخ الطُّوسي عَنِ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) أنَّه قال: «هَدِيَّةُ العَمَلِ غُلُوْلٌ»، وفي بعضها: «هَدِيَّةً العُمَّالِ سُحْتٌ»[2]f89.
وفيه أوَّلاً: أنَّهما ضعيفتان بالإرسال.
وثانياً: أنَّهما واردتان في هدايا العُمَّال، والكلام في الهديَّة للقاضي.
وهدايا العمَّال، إن كان المراد منها ما يهديه العُمَّال للولاة، فقد عرفت أنَّ الهديَّة للولاة جائزة؛ وإن كان المراد ما يهديه العمّال إلى الرَّعيَّة، فهو أيضاً جائز؛ لِمَا ذكرناه سابقاً من جواز أَخْذ جوائز السُّلطان وعُمَّاله.
وعليه، فلا بدَّ من تأويل الرِّوايتَيْن على تقدير صحَّتهما.
ومنها: ما في عيون الأخبار عَنِ الرِّضا (عليه السلام) عن آبائه عن عليٍّ S في قوله تعالى: « أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ﴾ ]المائدة: 42[ «قَاْلَ: هُوَ الرَّجلُ يَقْضِي لَأَخِيْه الحَاْجَةَ، ثمَّ يَقْبَلُ هَدِيَّتَه»[3]f90.
وفيه أوَّلاً: أنَّ الرِّواية ضعيفة بجهالة أكثر من شخص في السَّند.
وثانياً: أنَّها واردة في الهديَّة المتأخِّرة عن قضاء الحاجة، وقد عرفت أنَّها جائزة بالاتِّفاق، فلا بدَّ من تأويل الرِّواية على تقدير صحَّتها، كأنْ تُحْمَل على الكراهة، لبعض الأسباب المُوجِبة لذلك.
ومنها: ما ذكره الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله) من أنَّها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط.
وفيه: أنَّها ليست رشوة، وقد عرفت الفَرْق بين الرِّشوة والهديّة، كما أنَّه لا عِلْم لنا بالمناط، بل غاية ما هنالك هو الظَّنُّ به، وهو لا يغني مِنَ الحقِّ شيئاً.
والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا دليل على حرمة الهديَّة للقاضي، ومقتضى القاعدة هو الجواز، وقد حكم جماعة مِنَ الأعلام بكراهة أَخْذ الهديَّة للقاضي، ولكنَّ الكراهة لم تثبت أيضاً.
نعم، الأحوط للقاضي سدُّ باب الهدايا مطلقاً.