الدرس 101 _اصناف المستحقين للزكاة 2
وقدِ استدلّ ابن إدريس (رحمه الله) أيضاً بقوله تعالى: « إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ...﴾؛ باعتبار أنَّ القرآن الكريم قد نزل على لسان العرب، وكيفيَّة خطابهم وعادتهم البدأة بالأهمّ فالأهمّ فيُعلم أنَّ الفقير أهمّ، وما ذاك إلاَّ لأنَّه أسوأ حالاً.
وفيه: أنَّ العرب كما يبتدئون بالأهمّ فإنهم، يبدؤون بالأقلّ ويترقّون إلى الأعلى.
وقدِ استدلّ غير ابن إدريس (رحمه الله) بنبويَّيْن:
الأوَّل: أنَّه (ص) تعوَّذ من الفقر، وقال: «اللَّهمّ أحيني مسكيناً، وتوفني مسكيناً، واحشرني في زمرة المساكين»([1]).
وفيه أوَّلاً: أنَّه ضعيف جدّاً، بل لم يرد من طرقنا أصلاً.
وثانياً: أنَّ التعوَّذ من الفقر مع مسألة المسكنة يحتمل أن يكون لأجل كون المراد من الفقر هو العدم بلا قناعة، أو مجرَّد عدم القناعة، كما أنَّه يحتمل أن يكون المراد من المسكين في مسألة المسكنة هو الذُّلّ بين يدي الله تعالى.
وأمَّا النَّبويّ الثَّاني: فإنَّه (ص) قال: «ليس المسكين الذي ترده الأكلة والأكلتان، والثَّمرة والثَّمرتان، قالوا فما المسكين يا رسول الله قال الذي لا يجد غِنى، ولا يُعلم الناس حاجته فيُتصدَّق عليه»([2]).
وفيه: أنَّه نبويّ ضعيف جدّاً، مع احتمال كون المراد من المسكين هو الذَّليل الضَّعيف.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ هذا الاستدلال ليس تامّاً.
وأمَّا كلمات أهل اللُّغة فمضافاً إلى أنَّ كلامهم ليس بحُجّة، وأنَّهم لا يتعرَّضون للحقيقة والمجاز غالباً، وإنَّما يذكرون موارد الاستعمال، وهو أعمّ من الحقيقة والمجاز فهم مختلفون فيما بينهم في كون المسكين أسوأ حالاً أم أنَّ الفقير أسوأ حالاً.
والإنصاف: أن يُقال: إنَّ الفقر بشكل عامّ هو الاحتياج، والإنسان بحدِّ ذاته محتاج إلى الله دائماً، بل كلُّ ممكنٍ محتاجٌ إلى المبدأ الأعلى، فالفقر كامن في ذات الممكن.
ومن هنا كان الفقر بالنِّسبة للممكن وصفاً ذاتيّاً لا ينسلخ عنه.
والمراد من الذَّاتيّ هو الذَّاتيّ في كتاب البرهان لا الكُليَّات الخمس، قال الله تعالى: «ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد ﴾ ]فاطر: 15[، وأيضاً فإنَّ المسكنة بمعنى الذُّلّ وصف ذاتيّ للمسكين، أي ذاتيّ في كتاب البرهان، قال تعالى: «أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ »، وقد عرفت أنَّ من جملة الاحتمالات التي ذكرناها سابقاً هو أن يكون المراد من المساكين الأذلاَّء؛ هذا بشكل عامّ.
وأمَّا في مقامنا هذا، فنقول: إنَّ إطلاق المسكين في العرف على مَنْ يسأل إنَّما هو بملاحظة ظهور وصف المسكنة والالتجاء إلى الغير فيه، لا لأجل أنَّ المسكين موضوع لمَنْ يسأل، وإلاَّ فالفقير المتعفِّف الذي يُعدّ في العرف من الأعزاء هو في نفسه مسكين وإن لم يظهر عليه أثره؛ إذِ الفقر في حدِّ ذاته من أقوى أسباب المذلَّة، فكلُّ مَنْ يحتاج في نفقته إلى الاستعانة بغيره هو في نفسه مسكين.
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في اتِّحادهما مصداقاً.
والذي يهوِّن الخطب كما عرفت: أنَّه لا ثمرة مهمَّة لبيان المائز بينهما في كتاب الزَّكاة؛ للاتِّفاق على جواز إعطاء كلٍّ منهما من الزَّكاة، والله العالم.
الأمر الثَّاني: المعروف بين الأعلام قديماً وحديثاً أنَّ الحدّ المسوِّغ لتناول الزَّكاة في الصِّنفَيْن أي الفقير والمسكين هو عدم الغنى الشَّامل للمعنيَيْن، فمتى تحقَّق عدم الغنى استحقّ صاحبه الزَّكاة.
وفي الجواهر: «بلا خلاف إلى أن قال: بل قد تواتر أنَّها لا تحلّ لغنيّ، نعم قدِ اختلف الأصحاب فيما به يتحقَّق عدم الغنى، والمشهور بين المتأخِّرين من الأصحاب تحقُّقه بقصور المال أو ما يقوم مقامه عن مؤنة السَّنة له ولعياله، فيكون الغنيّ مَنْ لم يقصر ماله قوَّة أو فعلاً عن ذلك، بل عليه عامَّتهم عدا النَّادر الذي لا يُعبأ بخلافه...».
قال العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة: «ولكنِ اختلفوا في الغنى المانع من الأخذ، فللشَّيخ قولان، أحدهما: حصول الكفاية حولاً له ولعياله، وبه قال الشَّافعي ومالك، وهو الوجه عندي إلى أن قال: والقول الثَّاني للشَّيخ: أنَّ الضَّابط: مَنْ يملك نصاباً من الأثمان أو قيمته فاضلاً عن مسكنه وخادمه، وبه قال أبو حنيفة».
ولكن في الجواهر: «ولم نعرف القائل به أي القول الثَّاني: أنَّ الفقير مَنْ لم يملك نصاباً من الأثمان أو قيمته وإن نسبه غيرُ واحدٍ إلى الشَّيخ، وآخر إليه في الخلاف ولم نتحقّقه، بل المحكيّ في السَّرائر عن الخلاف القول الأوَّل، بل في مفتاح الكرامة: ولقد نظرت الخلاف مرَّة بعد أُولى، وكرَّة بعد أخرى، فلم أجد فيه تصريحاً بشيءٍ من النَّقلين إلاَّ قوله في باب الفطرة: تجب زكاة الفطرة على مَنْ ملك نصاباً تجب فيه الزَّكاة أو قيمة نصاب، وبه قال أبو حنيفة».
([1]) الجامع الصغير للسيوطي ج1، ص215.
([2]) سنن النسائي ج5، ص85.