الدرس 80 _زكاة الغلات الأربعة 18
الأمر الثَّالث: ذهب بعض الأعلام إلى أنَّ الخرص معاملة خاصَّة مستقلَّة، منهم صاحب الجواهر (رحمه الله)، حيث قال: «ولا يشترط في الخرص صيغة، بل هو معاملة خاصَّة يُكتفى فيها بعمل الخرص وبيانه، ولو جِيء بصيغة الصُّلح كان أَولى، وهو معاملة غريبة، لأنَّها تتضمَّن وحدة العوض والمعوَّض وضمان العين...».
أقول: يترتَّب على كون الخرص معاملة خاصَّة مشتملة على الإيجاب والقبول انتقال حصَّة الفقراء من العين إلى ذمَّة المالك، أو ثبوت حصَّتهم في العين بنحو الكُلِّيّ في المعيَّن.
ويترتَّب على ذلك أيضاً: أنَّه يجوز لكلٍّ من المالك والخارص الفسخ مع الغبن الفاحش؛ لأنَّ خيار الغبن يجري في جميع المعاملات، ولا يختصُّ بالبيع.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا دليل على كون الخرص معاملة خاصَّة، بلِ الظَّاهر أنَّ المراد منه كما هو المتبادر منه عرفاً هو التَّخمين، وتقدير الزَّكاة وتعيين مقدارها.
وبالجملة، فإنَّ الخارص يقدر كميَّة المال ومقدار النِّصاب ومقدار الزَّكاة لا غير، والله العالم.
الأمر الرَّابع: المعروف بين الأعلام أنَّ وقت الخرص حين بدوِّ الصلاح، وعن المحقِّق البهبهاني (رحمه الله) في شرح المفاتيح دعوى ظهور الإجماع عليه.
وفي المصباح للهمداني (رحمه الله): «صرح في محكي المعتبر بأنَّ وقت الخرص بدو الصَّلاح مستدلاًّ عليه بأنَّه وقت الأمن على الثَّمرة من الجائحة غالباً، وبما روي أنَّ النَّبيّ (ص) كان يبعث عبد الله بن رواحة خارصاً للنَّخل حين يطيب»، ولا يخفى أنَّ هذه الرِّواية نبويَّة ضعيفة.
ومهما يكن، فقد عرفت سابقاً عند الكلام عن وقت تعلُّق الوجوب أنَّه يحتمل أن يكون الخرص وقت التَّسمية، فراجع، فإنَّه مهمٌّ.
الأمر الخامس: ذكر جماعة من الأعلام أنَّ فائدة الخرص هو أنَّ للمالك مع قبوله التَّصرُّف كيف شاء بخلاف ما إذا لم يقبل، فإنَّه لا يجوز له التَّصرُّف فيه.
وقال في المدارك بعد أن ذكر صفة الخرص، وهو تقدير الثَّمرة لو صارت تمراً والعنب لو صار زبيباً، فإن بلغ الأوساق وجبتِ الزَّكاة «ثمَّ يخيِّرهم بين تركه أمانةً في يدهم وبين تضمينهم حقَّ الفقراء أو يضمن لهم حقَّهم، فإنِ اختاروا الضَّمان كان لهم التَّصرُّف كيف شاؤوا، وإن أبوا جعله أمانةً، ولم يجز له التَّصرُّف بالأكل والبيع والهبة؛ لأنَّ فيها حقُّ المساكين».
أقول: لكي يتَّضح الحال لا بدَّ من التَّكلُّم في صورتَيْن:
الأُولى: بناءً على أنَّ الوقت الذي تتعلَّق به الزَّكاة في الغلاَّت هو بدوُّ الصَّلاح وانعقاد الحبِّ واشتداده:
فتارةً: نقول: إنَّ الخرص معاملةٌ خاصَّةٌ، كما ذهب إليه بعض الأعلام.
وأخرى: أنَّه ليس كذلك، بل هو تخمين وتقدير للزَّكاة فقط.
فإن قلنا: بأنَّه معاملة خاصَّة مفادها اشتغال ذمَّة المالك بحِصَّة الفقراء أو ثبوتها في العين على نحو الكُلِّيّ في المعيّن، فلا إشكال حينئذٍ في جواز تصرُّف المالك في تمام العين بناءً على اشتغال ذمَّة المالك بحِصَّة الفقراء لأنَّ النَّاس مسلَّطون على أموالهم.
وأمَّا بناءً على ثبوتها في العين، فيجوز التَّصرُّف أيضاً فيها عدا مقدار الزَّكاة؛ هذا إذا قلنا: بأنَّ الخرص معاملة خاصَّة.
وأمَّا إذا لم نقل بذلك، بل اعتبرناه تخميناً، وتقديراً للزَّكاة فقط، فأيضاً يجوز التَّصرُّف في العين فيما عدا مقدار الزَّكاة، بناءً على أنَّ الزكاة متعلِّقة بالعين على نحو الكُلِّيّ في المعيَّن.
وكذا على القول: بأنَّها متعلِّقة في العين على نحو الشَّركة الماليَّة، وأيضاً يمكنه التَّصرُّف في العين حتى على القول بالشَّركة الحقيقيَّة، وذلك بإخراج زكاة ما يتصرَّف فيه ولو تدريجيّاً، فيأخذ من العين شيئاً فشيئاً، وكلُّ ما يأخذ يدفع زكاته، ثمَّ يتصرَّف فيه، وهكذا.
الصُّورة الثَّانية: بناءً على أنَّ الوقت الذي تتعلَّق به الزَّكاة هو التَّسمية، أي إذا صارت تمراً وزبيباً وحنطةً وشعيراً، كما هو مقتضى الإنصاف عندنا، ففي هذه الحالة لا إشكال في جواز التَّصرُّف قبل بلوغ هذا الوقت؛ لأنَّه مال المالك والنَّاس مسلَّطون على أموالهم، ولا معنى لمقاسمة المالك والصُّلح معه، ونحو ذلك؛ إذِ الفرض أنَّ الوجوب لم يتعلَّق بعدُ بالمال.
ومن هنا عِيب على المحقِّق وصاحب المدارك (رحمهما الله) وغيرهما ممَّنْ جعل وقت الوجوب هو وقت التَّسمية، أنَّه كيف تكون ثمرة الخرص هي جواز تصرُّف المالك مع الضَّمان وعدمه بدون الضَّمان، مع أنَّ المال ما زال بتمامه للمالك والنَّاس مسلَّطون على أموالهم.
إن قلت: ما فائدة الخرص بناءً على هذا القول؟
قلتُ: فائدته هي ما ذكرناه عند الكلام عن وقت تعلُّق الوجوب، فراجع.
ويمكن أن تكون فائدته هي الاكتفاء بهذه الحِصَّة التي يعينها الخارص بعد تعلُّق الوجوب بها بعد ذلك، وإن خالف تقديره للواقع إذا لم ينكشف الخلاف، والله العالم.