الدرس 66 _زكاة الغلات الأربعة 4
وقد أجاب جماعة من الأعلام عن ذلك ومنهم صاحب الجواهر (رحمه الله) : بأنَّ الفائدة من الخرص يمكن أن تكون الحفظ من الخيانة عند تعلّق الحقّ به، أي بعد صيرورته تمراً، بل قال صاحب الجواهر: «هو المقصد الأصليّ فيه».
وفيه: أنَّ هذا الجواب في غير محله؛ لأنَّ غاية ما يمكن معرفته بالخرص هو مقدار ما يبلغ ثمر النَّخل الموجود بالفعل على تقدير بقائها سليمةً عن الآفات تمراً عند جفافها.
وأمَّا أنَّ ثمرتها تبقى ولا يأكلها صاحبها ولا يبيعها أو ينفقها على غيره حال كونها بُسراً أو رطباً، فهو ممّا لا يمكن معرفته بالتَّخمين، فإنَّه يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأمكنة اختلافاً فاحشاً غير قابل للانضباط كي يمكن الإحاطة به بالخرص، ويصحّ نسبة الخيانة إلى أحد المالكين عند تخلُّف ما يوجد عمَّا خرص.
والإنصاف: أنَّه يمكن الجواب عن هذا الدَّليل بأمرَيْن:
الأوَّل: أنَّه لم يثبت كون الخرص كان قبل صِدْق الاسم؛ إذ يجوز أن يكون الخرص مختصّاً بما كان تمراً على النَّخل.
ودعوى: أنَّ ذلك إن تمَّ في التَّمر فلا يتمُّ في الزَّبيب؛ لأنَّه لا يصير زبيباً إلاَّ بعد الصَّرم ومضي مدَّة وحينئذٍ يصير مكيلاً أو موزوناً بالفعل، فلا يجوز أخذ الزَّكاة منه بمجرَّد الخرص والظَّنّ والتَّخمين؛ لكونه مكيلاً أو موزوناً بالفعل، يمكن منعها، وأنَّه يجوز خرصه زبيباً على شجرة، فلا يكون مكيلاً ولا موزوناً، كالتَّمر في النَّخل.
الأمر الثَّاني: لو سلَّمنا بأنَّ الخَرْص كان قبل الاسم، ولكن لم يُعلَم أنَّه كان مبنيّاً على خَرْص تمام الثَّمرة، فيجوز أن يخرص المقدار المتعارف بقاؤه إلى أن يصير تمراً، واستثناء المقدار الذي يتعارف أكله أو إتلافه قبل اليبس.
وعليه، فيكون خَرْص البعض لغواً؛ لعدم انحصار الزَّكاة فيه، ولعدم العلم بقدر المجموع، ولا تجدي معرفة البعض في معرفة المجموع.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ أدلَّة المشهور ليست تامة.
فما ذكره المحقِّق (رحمه الله)، ومَنْ وافقه من الأعلام من وجوب الزَّكاة عند صِدْق الاسم هو الأقوى.
نعم، في خصوص الزَّبيب دلَّت بعض الرِّوايات المتقدِّمة على تعلُّق الوجوب عند الاتِّصاف بالعِنبيَّة فيما إذا بلغ النِّصاب حال صيرورته زبيباً، وقلنا: أنه لا مانع من الالتزام به، والله العالم بحقائق أحكامه.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ووقت الإخراج عند الجفاف والتَّصفية(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ وقت الإخراج الذي يسوغ فيه للسَّاعي مطالبة المالك بالزكاة، وإذا أخَّرها عنه مع التمكن ضَمِن في الغلَّة هو في القمح والشعير عند التَّصفية من التِّبن والقشر،
وفي التَّمر عند اجتذاذه، وفي الزَّبيب عند اقتطافه.
وفي المحكي عن المنتهى: «اتَّفق العلماء على أنَّه لا يجب الإخراج في الحبوب إلاَّ بعد التَّصفية، وفي التَّمر إلاَّ بعد التَّشميس والجفاف»، وفي التَّذكرة: «لا يجب الإخراج حتى تجذ الثَّمرة وتُشمَّس وتُجفَّف، وتحصد الغلَّة وتُصفَّى من التِّبن والقِشر بلا خلاف»، وحينئذٍ فيختلف على المشهور زمان وجوب الزَّكاة وزمان وجوب الإخراج، بل وعلى غير المشهور أيضاً، كما سيتضح لك.
ولكن في محكي الرَّوضة: «أنَّ وقت الوجوب والإخراج واحد، وهو وقت التَّسمية، بناءً على غير المشهور، أمَّا عليه فهو مغاير لوقت الإخراج...».
أقول: لا يخفى أنَّ المراد بوقت الإخراج هو الوقت الذي يجوز للسَّاعي مطالبة المالك فيه، وليس للمالك الامتناع من الدَّفع إليه لدى المطالبة، وأنَّه لو أخَّر الزَّكاة عنه مع التمكُّن من إيصالها إلى المستحقِّ ضمن.
وهذا متأخِّر عن وقت الوجوب، سواء قلنا: بتعلُّق الوجوب من حين بدوِّ الصَّلاح كما هو رأي المشهور أو قلنا: بدورانه مدار التَّسمية كما هو مقتضى الإنصاف عندنا .
أمَّا على الأوَّل فواضح، وكذا على الثَّاني، فإنَّ التَّسمية تتحقَّق في الزَّرع قبل الحصاد فضلاً عن التَّصفية، وفي النَّخل أيضاً قد تتحقَّق قبل الاجتذاذ؛ مع أنَّه لا يجب الإخراج حينئذٍ.
وذهب بعض الأعلام إلى اتِّحاد زمانهما على القول بدورانه مدار التَّسمية، وأنَّ الحصاد والتَّصفية في الزَّرع والاجتذاذ في النَّخل من مقدِّمات الامتثال، لا من شرائط وجوب الإخراج، فهي من المقدِّمات الوجوديَّة للواجب المطلق.
ولكن يرد عليه: أنَّ المتبادر من الأمر بصرف العُشْر من حاصل زرعه أو ثمرة بستانه هو إرادة إيصال الحصَّة المقرَّرة للفقير بعد تصفية الحاصل، وصرم البستان على حسب ما جرت العادة في تقسيم حاصل الزّراعات وثمرة الأشجار بين الشُّركاء، فليس للفقير أولويَّة مطالبة المالك بالحصَّة المقرَّرة له قبل استكمال الحاصل أو قبل بلوغ أوأن قسمتها بين مستحقيها في العرف والعادة.
ومن المعلوم أنَّ جفاف التَّمر، وكذا الزَّبيب، بل وكذا الغلَّة، إنَّما يكون تدريجيّاً، فما لم يستكمل الجميع والذي منه جَمْع التَّمر والعنب المنشورَيْن للتَّشميس والتَّجفيف، فليس للسَّاعي المطالبة بحقِّ الفقير.
ويؤكِّد ما ذكرناه: رواية أبي مريم الأنصاري عن أبي عبد الله (عليه السلام) «في قول الله (عز وجل): « وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ﴾ ]الأنعام: 141[، قال: تعطي المسكين يوم حصادك الضّغث، ثمَّ إذا وقع في البيدر، ثمَّ إذا وقع في الصَّاع، العُشْر ونصف العشر»([1]).
وقد دلَّت على أنَّه يعطى للمسكين يوم الحصاد ضغثاً من الحنطة، وذكرنا سابقاً أنَّ ذلك على نحو الاستحباب.
ووجه التَّأييد: هو أنَّ قوله (عليه السلام): «إذا وقع في الصَّاع...»، كنايةٌ عن بلوغ أوان قسمة الحاصل الذي هو بعد التَّصفية وتجفيف الثَّمرة.
وإنَّما جعلناها مؤيِّدةً، لا دليلاً، مع وضوح دلالتها؛ لأنَّها ضعيفة سنداً بعدم وثاقة المعلَّى بن محمَّد، ووقوعه في إسناد كامل الزِّيارات لا ينفع؛ لعدم كونه من مشايخه المباشرين.
ثمَّ إنَّه يترتَّب على ما ذكرناه أنَّه إذا صار وقت التَّصفية في العرف والعادة وتسامح المالك فيها، وأخَّرها عن وقتها المعتاد لا لعذر، فيضمن حينئذٍ ويُلزم بالتَّصفية خروجاً عن عهدة الحقِّ الواجب عليه.
ثمَّ إنَّه بقي في المقام شيء، وهو أنَّه بناءً على مقالة المشهور في تعلُّق الزَّكاة، فيكون عدم وجوب الإخراج مع وجوب الزكاة إنَّما هو إذا أُرِيد البقاء إلى المنتهى.
وأمَّا إن أُريد اقتطافه حصرماً أو عنباً أو بُسْراً أو رُطباً فلا ريب في وجوب الإخراج منه حينئذٍ؛ ضرورة معلوميَّة كون التَّأخير إرفاقاً بالمالك الذي يريد الانتظار بالثَّمرة إلى نهاية نضجها.
وأيضا بناءً على قول المشهور في تعلُّق الزَّكاة، فلو كانت الثَّمرة مخروصةً على المالك، فطلب السَّاعي الَّزكاة منه قبل اليبس لم تجب على المالك إجابته على الظَّاهر؛ للاتِّفاق بين الأعلام على جواز التَّأخير.
نعم، لو بذل المالك الزَّكاة بُسْراً أو حصرماً مثلاً للسَّاعي وجب القبول، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 13 من أبواب زكاة الغلاَّت ح3.