الدرس 69 _زكاة الغلات الأربعة 7
الأمر الرَّابع: المعروف بين الأعلام كما أشرنا أنَّ المُدَّ رطلان وربع بالعراقيّ، ورطل ونصف بالمدنيّ.
ولكن نُقِل عن البزنطيّ وهو من المتقدِّمين أنَّ المُدَّ رطل وربع، ولكنَّه شاذ لم يُعرف له موافق في الإسلام، لا من المتقدِّمين ولا من المتأخِّرين، كما أننا لا نعرف مستنده.
وبناءً على هذا القول يلزم أن يكون الصَّاع خمسة أرطال لا ستَّة، بناءً على أنَّ الصَّاع أربعة أمداد، كما هو المعروف، ولا يمكن الالتزام بهذا القول.
ومهما يكن، فإنَّ ما نُسِب إلى البزنطيّ ليس تامّاً.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ الصَّاع الذي عليه مدار الأحكام أربعة أمداد، والمُدّ رطلان وربع بالعراقيّ، ورطل ونصف بالمدنيّ، فيكون النِّصاب حينئذٍ ألفَيْن وسبعمائة رطل بالعراقيّ، حاصل من ضرب الخمسة أوساق في السِّتِّين صاعاً الذي هو الوَسْق فتبلغ ثلاثمائة صاع، فيضرب الثَّلاثمائة في التِّسعة أرطال فتبلغ المقدار المزبور وهو ألفا وسبعمائة رطل بالعراقيّ وألف وثمانمائة رطل بالمدنيّ، حاصل من ضرب الثلاثمائة صاع في الستَّة.
وأمَّا الصَّاع، فهو ألف ومائة وسبعون درهماً.
ثمَّ إنَّ المشهور بين الأعلام كما هو الصَّحيح أنَّ الرّطل العراقيّ مائة وثلاثون درهماً.
وقد عرفت في نصاب النَّقدَيْن أنَّ كلَّ عشرة دراهم سبعة مثاقيل شرعيَة، فيكون الرَّطل العراقيّ واحداً وتسعين مثقالاً بالمثقال الشَّرعيّ.
ثمَّ اعلم أنَّ المدار في بلوغ النِّصاب على التَّحقيق لا التَّقريب، فلو نقصت الغلّة عن الخمسة الأوساق ولو قليلاً فلا زكاة؛ لقول الإمام الباقر (عليه السلام) في صحيحة زرارة المتقدِّمة: «وليس فيما دون الثَّلاثمائة صاع شيءٌ»([1]).
وفي موثَّقة زرارة، وبكير، عن أبي جعفر (عليه السلام)، حيث ورد فيها «فإن كان من كلِّ صنف خمسة أوساق غير شيء وإن قلَّ، فليس فيه شيءٌ، وإن نقص البُرُّ والشَّعير والتَّمر والزَّبيب أو نقص من خمسة أوساق صاع أو بعض صاع فليس فيه شيء»([2]).
ولا عبرة بالمسامحات العرفيَّة لدى النَّقص القليل في الأحكام الشرعيَّة المبيّنة على التَّحقيق، وإن كان ذلك المقدار مغتفراً لدى العرف في معاملاتهم غالباً.
وحكى العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة عن بعض العامَّة قولاً بأنَّ هذا التَّقدير تقريبٌ، فإنَّ نقص قليلاً وجبتِ الزَّكاة؛ لأنَّ الوَسْق في اللُّغة الحِمل، وهو يزيد وينقص.
ثمَّ ردَّه بأنَّا إنَّما اعتبرنا التَّقدير الشَّرعيّ لا اللُّغوي، وهو جيِّدٌ، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ويعتبر جافَّا مشمساً(1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ العبرة ببلوغ حدِّ النِّصاب وقت الجفاف وصيرورته تمراً أو زبيباً، فلو كان بالغاً هذا الحدّ قبل جفافه لم تجب فيه الزَّكاة.
قال العلاَّمة (رحمه الله) في التَّذكرة: «النِّصاب المعتبر وهو خمسة أوسُق إنَّما يُعتَبر وقت جفاف التمر ويبس العنب والغلَّة، فلو كان الرَّطب خمسة أوسُق أو العنب أو الغلَّة ولو جفَّت تمراً أو زبيباً أو حنطةً أو شعيراً نقص فلا زكاة إجماعاً، وإن كان وقت تعلُّق الوجوب نصاباً»، ونحوه في المنتهى.
أقول: ظاهر الأعلام أنَّ الدَّليل الوحيد على ذلك هو الإجماع.
ولكنَّ الإنصاف: أنّ الرِّوايات المتقدِّمة الدالَّة على تحديد نصاب الغلاَّت بالأوسَاق والأصواع التي هي من الأكيال تدل على ذلك.
ومن المعلوم أنَّ الغلاَّت الأربع لا تُكال إلاَّ بعد اليبس والجفاف، وقبل ذلك لا تُكال، وإنَّما تباع خرصاً أو وزناً ونحو ذلك، وبذلك يُعلم أنَّ المناط في النِّصاب هو الجفاف واليبس، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: فيخرج منها العُشر إن سُقيت سيحاً أو بعلاً أو عذياً، ونصفه إن سقيت بالدَّواليّ والغرب، وما فيه مؤونة(1)
(1) المراد بالسّيح: الجريان على وجه الأرض، سواء كان قبل الزَّرع، كالنِّيل أو بعده؛ والبعل بالعين المهمل : ما يشرب بعروقه في الأرض التي تقرب من الماء؛ وبالعذي: ما سقته السَّماء؛ والدَّوالي: جمع دالية، وهي النَّاعورة التي تديرها البقر أو غيرها؛ والنَّواضح: جمع ناضح، وهو البعير يُستَقى عليه؛ والرّشا: الحبل؛ والغرْب بالغين المعجمة وسكون الرَّاء : الدَّلو العظيم الذي يُتخَذ من جلد الثَّور؛ والسّواني: جمع سانية، وهي النَّاقة التي يُسقَى عليها.
وإنَّما تعرَّضنا لمعاني هذه الألفاظ لورودها في الرِّوايات، كما سيأتي إن شاء الله تعالى .
وفي المدارك: «وهذا الحكم أعني وجوب العُشْر في الأوَّل، وهو ما لا يحتاج في سقيه إلى آلة من دولاب ونحوه، ونصف العُشْر في الثَّاني مذهب العلماء كافَّةً، حكاه في المنتهى. وقال في التَّذكرة: إنَّه لا خلاف فيه بين العلماء...»، وفي الجواهر: «بلا خلاف أجده كما اعترف به بعضهم، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، بل في المعتبر نسبته إلى إجماع العلماء، بل في محكيّ كَشْف الالتباس إجماع المسلمين...».
أقول: هذه المسألة قد تسالم عليها الأعلام كلّهم قديماً وحديثاً، بحيث خرجت عن الإجماع المصطلح عليه، بل هي من ضروريَّات الفِقه.
ويدلُّ عليها مضافاً لما ذُكِر جملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة زرارة وبكير جميعاً عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال في الزَّكاة: ما كان يُعالج بالرّشاء والدَّوالي والنَّضح ففيه نصف العُشْر، وإن كان يُسقى من غير علاج بنهر أو عين أو بعل أو سماء ففيه العُشْر كاملاً»([3]).
ومنها: صحيحة زرارة الأخرى عن أبي جعفر (عليه السلام) «قال: ما أنبتتِ الأرضُ من الحنطة والشَّعير والتَّمر والزَّبيب ما بلغ خمسة أَوْسَاق، والوَسْق ستُّون صاعاً، فذلك ثلاثمائة صاع، ففيه العُشْر، وما كان منه يُسْقَى بالرّشاء والدَّوالي والنَّواضح ففيه نصف العُشْر، وما سقتِ السَّماء أو السّيح أو كان بعلاً ففيه العُشْر تامّاً، وليس فيما دون الثَّلاثمائة صاع شيء، وليس فيما أنبتتِ الأرض شيءٌ إلاَّ في هذه الأربعة أشياء»([4]).
([1]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح5.
([2]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلاَّت ح8.
([3]) الوسائل باب 4 من أبواب زكاة الغلاَّت ح5.
([4]) الوسائل باب 1 من أبواب زكاة الغلات ح5.