الدرس 52 _زكاة الأنعام 24
الأمر الثَّالث: المشهور بين الأعلام جواز الإخراج بالقيمة السُّوقيّة من أيّ جنس يكون، ولا يختصّ ذلك بالدّراهم والدّنانير، وبما بحكمهما من الأوراق النّقديَّة المتداولة في هذه الأعصار، بل عن ظاهر الخلاف والغنية: دعوى الإجماع عليه.
وقال المصنّف (رحمه الله) في البيان: «لو أخرج في الزَّكاة منفعة بدلاً من العين، كسكنى الدّار فالأقرب الصّحَّة، وتسليمها بتسليم العين، ويحتمل المنع؛ لأنَّها تحصل تدريجاً. ولو آجر الفقير نفسه أو عقاره، ثم احتسب مال الاجارة، جاز، وان كان معرضاً للفسخ».
وقد استشكل صاحب المدارك (رحمه الله) في إخراج القيمة ممّا عدا النَّقدين، حيث قال بعد نقله لعبارة البيان أن: «جواز احتساب مال الإجارة جيِّد؛ لأنَّه مال مملوك، وكونه معرضاً للفسخ لا يصلح مانعاً، أمّا جواز احتساب المنفعة فمشكل، بل يمكن تطرّق الإشكال إلى إخراج القيمة ممّا عدا النّقدين».
ويظهر من عبارة الوافي المنع عن التّبديل بغير الدّراهم والدّنانير، حيث قال بعد ذكر رواية سعيد بن عمر الآتية : «لأنَّ التّبديل إنَّما يجوز بالدّراهم والدّنانير دون غيرهما».
وممّن ذهب إلى اختصاص التّبديل بالدّراهم والدّنانير وما بحكمهما من الأوراق النّقدية المتداولة في هذه الأعصار فقط دون أي جنس كان السّيد أبو القاسم الخوئي (رحمه الله).
أقول: قد استدلّ للمشهور بموثّقة يونس بن يعقوب المتقدِّمة أو صحيحته.
وفيه: ما عرفته من الإشكال الوارد على دلالتها، فلا حاجة للإعادة.
والإنصاف: أنَّه يمكن أن يستدلّ للمشهور بما تقدّم من تجويز صرف الزّكاة في المواضع التي يتعذّر أو يتعسّر صرف عينها فيها غالباً، فإنَّه يستفاد من تجويز تجهيز موتى المسلمين من الزّكاة، ووفاء ديونهم وصرفها في سائر وجوه البرّ، كبناء المساجد والقناطر وإعانة الحجّاج والزّائرين، فيما يحتاجون بمقدار حاجتهم جواز إخراج كل ما يجوز شراؤه من الزّكاة لأجل هذه المصارف كالجصّ والنّورة لتعمير المساجد وشراء الكفن لميت ونحوه، بل للمالك أن يختار في مصرفها من وجوه البرّ ما لا يناسبه إلاَّ الجنس الذي أخرجه بدلاً عن الفريضة الواجبة في ماله.
ويؤيِّده: ما دلّ على احتساب الدّين منها.
إن قلت: يعارض هذا ما في رواية سعيد بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: قلت: يشتري الرَّجل من الزّكاة الثّياب والسّويق والدّقيق والبطيخ والعنب فيقسّمه؟ قال: لا يعطيهم إلاّ الدّراهم، كما أمر الله»([1]).
وفيه أوّلاً: أنّها ضعيفة بسهل بن زياد وعدم وثاقة سعيد بن عمر.
وثانياً: أنّها غير معمول بها؛ إذ لا يتعيّن إخراج الدّراهم حتى فيما إذا كانت الفريضة من جنسها لجواز إخراج قيمتها من الدّنانير نصّاً وتسالماً بين الأعلام.
وعليه، فلم يقصد بقوله (عليه السلام): «لا يعطيهم إلاّ الدّراهم» خصوص الدّراهم، بل هي جارية مجرى التمثيل.
وثالثاً: يحتمل أن تكون ناظرةً إلى ما إذا عيَّن زكاته وفرزها خارجاً وعزلها، كما ذكرنا في كلامنا عن موثّقة يونس أو صحيحته المتقدِّمة، فتكون خارجة عن محلّ الكلام.
ومن هنا، سأل الإمام (عليه السلام) عن جواز هذه التّصرّفات؛ لأنَّه بعد العزل تتعيّن زكاة، ولا ولاية للمالك على الفقير، بحيث يتصرّف في ماله كيف شاء وأراد.
وعليه، فيكون هذا من باب تبديل الزّكاة المتعيّنة بالعزل بجنس آخر، وهذا خارج عن محلّ الكلام؛ لأنَّ محلّ الكلام هو إعطاء القيمة بعنوان الزّكاة.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ ما ذهب إليه المشهور هو الأقوى.
ومع ذلك له، فلا ينبغي ترك الاحتياط بدفع الدّنانير أو الدّراهم، وما بحكمها من الأوراق النّقدية المتداولة في هذه الأعصار، والله العالم بحقائق أحكامه.
الأمر الرَّابع: المعروف بين الأعلام أنَّ المراد بالقيمة القيمة وقت الإخراج؛ لأنَّه وقت الانتقال؛ إذ هي بدل وليست واجبة بالأصالة، فالواجب بالأصالة هو العين.
وبالجملة، فإنَّ المراد بالقيمة قيمة وقت الإخراج لا وقت الوجوب.
وقال العلاّمة (رحمه الله) في التّذكرة: «إنَّما تعتبر القيمة وقت الإخراج إن لم يقوّم الزّكاة على نفسه، ولو قوّمها وضمن القيمة ثمَّ زاد السّوق أو انخفض قبل الإخراج، فالوجه وجوب ما ضمنه خاصّة دون الزّائد والنّاقص، وإن كان قد فرّط بالتّأخير حتى انخفض السّوق أو ارتفع، أمّا لو لم يقوّم، ثمّ ارتفع السّوق أو انخفض أخرج القيمة وقت الإخراج».
ويرد عليه: أنَّ معنى تقويم الزّكاة على نفسه هو إرادة المعاوضة عليها، ولا دليل على ولايته، بحيث تكون له المعاوضة على الزّكاة، على وجه يكون الواجب عليه في الذمَّة القيمة لا العين.
وبالجملة، فإنَّ نقل الزّكاة من العين إلى الذمّة بحيث يكون الواجب في ذمّته القيمة يحتاج إلى دليل، وهو مفقود، وإنَّما الثّابت بالنّصّ جواز تأدية الزّكاة بالقيمة السُّوقيّة، وهذا لا يقتضي إلاّ جواز إخراج القيمة حال التَّأدية.
والخلاصة: أنَّ الأقوى اعتبار قيمتها حال الإخراج، أي حال صرفها إلى مصرفها أو إيصالها إلى من له الولاية على قبضها، أو حال عزلها؛ باعتبار أنَّ له الولاية على العزل، كما سيأتي إن شاء الله تعالى بحيث يصير بالعزل ملكاً لمستحقّ الزّكاة، وتبقى تحت يده أمانة.
الأمر الخامس: المعروف بين الأعلام أنَّ الإخراج من العين أفضل، إمّا للاحتياط والخروج عن شبهة الخلاف، أو لرواية سعيد بن عمر المتقدِّمة بعد حملها على الاستحباب، وعلى كون موردها زكاة الدّراهم، ولكنَّك عرفت أنَّ الرّواية ضعيفة سنداً ودلالة، فلا حاجة للإعادة.
والإنصاف: أنَّ الإخراج من العين قد يكون أفضل إذا كان ذلك أصلح للفقير، وقد يكون دفع القيمة أفضل إذا كان ذلك أصلح له، كما هو الغالب اليوم، فإنَّ القيمة أصلح له بكثير، والله العالم.
([1]) الوسائل باب 14 من أبواب زكاة الذهب والفضة ح3.