الدرس 1192 _كتاب الخمس 72
وأمَّا القول الثَّامن: وهو دفع النِّصف أي سهم السَّادة الكرام إلى الأصناف الثَّلاثة منهم، وأمَّا حقُّه (عليه السلام)، فيُودع من ثقة إلى ثقة إلى أنْ يصل إليه (عليه السلام) وقت ظهوره، أو يُدفن، وهو الَّذي ذهب إليه الشَّيخ (رحمه اﷲ) في النِّهاية.
ففيه: أنَّه جيّدٌ جدّاً بالنِّسبة للأصناف الثَّلاثة أي سهم السَّادة وهو موافق للمشهور بين الأعلام قديماً وحديثاً، وهو موافق للكتاب المجيد، والسُّنّة النَّبويّة، وهو أيضاً على مقتضى القاعدة.
وأمَّا بالنِّسبة للشّقّ الثَّاني أي حقّه (عليه السلام) : فأمّا الدَّفن الَّذي هو أحد شِقَّي التَّخيير.
فيندفع: بما ذكرناه في القول السَّابع، فلا حاجة للإعادة.
وأمَّا الوصيّة به من ثقة إلى ثقة إلى أنْ يصل إليه (عليه السلام)، والذي اقتصر عليه ابن إدريس (رحمه اﷲ) في السَّرائر، حيث قال: (هذا الَّذي اخترناه، وحقّقناه، وأفتينا به، هو الَّذي يقتضيه الدِّين، وأصول المذهب، وأدلَّة العقول، وأدلَّة الفِقه، وأدلَّة الاحتياط، وإليه يذهب ويُعوّل عليه جميع محقِّقي أصحابنا المصنِّفين، المحصِّلين، الباحثين عن مأخذ الشَّريعة، وجهابذة الأدلَّة، ونُقّاد الآثار، فإنَّ جميعهم يذكرون في باب الأنفال هذه المقالة، ويعتمدون على القول الأخير الَّذي ارتضيناه، بغير خلاف بينهم...)([1]).
فيندفع أيضاً: بما ذكرناه في القول السَّادس، فراجع.
وأمَّا القول التَّاسع: وهو صرف حصَّة الأصناف الثلاثة عليهم أي صرف سهم السَّادة للسَّادة الكرام والتَّخيير في حصَّته (عليه السلام) بين الدَّفن والوصيّة على الوجه المتقدِّم، وصلة الأصناف الثَّلاثة مع الإعواز بإذن نائب الغيبة، وهو الفقيه المأمون، وهو الَّذي ذهب إليه المصنِّف (رحمه اﷲ) هنا.
ففيه: أمَّا صرف حصَّة الأصناف الثَّلاثة عليهم، فهو في غاية الصِّحَّة والمتانة، كما عرفت.
وأمَّا حقُّه (عليه السلام)، فقد عرفت الجواب عن الوصيّة به، وعن دفنه، فراجع.
وأمَّا صرفه على الأصناف الثَّلاثة مع الإعواز بإذن نائب الغيبة، وهو الفقيه المأمون، فهو جيِّد؛ للعلم برضاه (عليه السلام) في الدَّفع إلى أقاربه المحتاجين الحيارى ذُكُوراً وإناثاً، الَّذين لا يعلمون كيف يفعلون، ولا يدرون أين يتوجّهون، خصوصاً مع عداوة أكثر النَّاس لهم وإرادتهم إراقة دمائهم بغضاً وحَسَداً لآبائهم.
ولكنَّ ذلك لا ينحصر فيهم؛ إذ يُعلم أيضاً رضاه (عليه السلام) بصرف حقِّه (عليه السلام) على الأيتام والضُّعفاء من شيعته، وعلى الأرامل من مواليه الَّذين هم في غاية الفقر والفاقة وكمال الدِّيانة والتُّقى، ويُعلم أيضاً رضاه في صرفه في بعض المصارف التي يحصل بها تشييد الدِّين، وترويج شريعة سيِّد المرسلين (صلّى الله عليه وآله).
بقيَ القول العاشر: وهو ما ذهب إليه صاحب الجواهر (رحمه اﷲ) من أنَّ حصَّة الأصناف الثَّلاثة أي سهم السَّادة الكرام تُصرف عليهم. وأمَّا حقُّه (عليه السلام)، فيُتعامل معه معاملة المال المجهول مالكه؛ باعتبار تعذُّر الوصول إليه (عليه السلام)؛ إذ معرفة المالك باسمه ونسبه دون شخصه لا تُجدي، فيتصدَّق به حينئذٍ نائبه في الغيبة عنه (عليه السلام)، ويكون ذلك وصولاً إليه على غرار غيره من الأموال الَّتي يمتنع إيصالها إلى أصحابها.
واستظهر الشَّيخ الأنصاريّ (رحمه اﷲ) من نصوص التّصدُّق بمجهول المالك أنَّ المناط تعذُّر الإيصال من دون مدخليّة للجهل، بل جزم بذلك في مكاسبه في مبحث جوائز السُّلطان، فجعل حُكم المال الَّذي يتعذّر إيصاله إلى صاحبه التّصدُّق به عنه.
أقول: لا إشكال في أنَّ بعض الرِّوايات الواردة في المقام ظاهرة جدّاً في أنَّ حُكم الشَّارع بالصَّدقة في ما لا يُعرف صاحبه إنَّما هو لتعذُّر إيصاله إليه، لا لعدم معرفته بشخصه، كما في صحيحة يُونس (قَاْل: سُئِل أبو الحسن الرِّضا (عليه السلام)، وأنا حاضر إلى أن قال: فقال: رفيقٌ كان لنا بمكَّة، فرحل منها إلى منزله، ورحلنا إلى منازلنا، فلمَّا أنْ صرنا في الطَّريق أصبنا بعض متاعه معنا فأيُّ شيءٍ نصنع به؟ قَاْل: تحملونه حتَّى تحملوه الى الكوفة، قَاْل: لسنا نعرفه، ولا نعرف بلده، ولا نعرف كيف نصنع؟ قَاْل: إذا كان كذا فبعه، وتصدَّق بثمنه، قَاْل له: على مَنْ جُعلت فداك؟ قَاْل: على أهل الولاية)([2]).
وهي واضحة في أنَّ السَّائل كان يعلم بأنَّ هذا المال لذلك الشَّخص الخاصّ المعهود الَّذي كان معه بمكَّة، ولكنَّه لم يكن يعرف بلده ولا شخصه ببعض عناوينه المعروفة في ما بين النَّاس على وجه يمكنه الوصول إليه بالفحص والسُّؤال.
ويظهر من هذه الصَّحيحة جواز بيع المال المجهول مالكه، أو المعلوم مالكه، والتّصدُّق بالثَّمن مع تعذُّر الوصول إليه، وكذا غيرها من الروايات.
وبالجملة، فإنَّه يظهر من جملة من الرِّوايات أنَّه في صورة تعذُّر إيصال المال إلى مالكه المعلوم تفصيلاً يكون حكمه حكم مجهول المالك من حيث التّصدُّق به عن صاحبه، إلاَّ أنَّ هذا إنَّما يكون إذا لم ُيحرز رضا صاحبه بصرفه في جهة معيّنة، وإلاَّ فلا تصل النَّوبة إلى التّصدُّق به عن صاحبه، بل يُصرف في ما أُحرز رضاه فيه.
وبالجملة، فروايات التّصدُّق منصرفةٌ عن صورة إحراز رضا صاحب المال بصرفه في جهة معيّنة، كما في ما نحن فيه أي في حقّه (عليه السلام) ؛ لأنّنا نعلم أو نطمئن برضاه (عليه السلام) بصرف سهمه في تشييد الدِّين وإعلاء كلمة الإسلام، ونُحرز رضاه (عليه السلام) أيضاً بإعطائه للعلماء ولطلبة العلوم الدينية الَّذين يصرفون أوقاتهم في تحصيل علوم أهل البيت (عليهم السلام)، وترويج المذهب الشَّريف.
وعليه، فإنَّ مورد صحيحة يونس وغيرها ما يتعذَّر فيه الإيصال إلى المالك، ومع إحراز الرِّضا بصرفه في جهة معيّنة يتحقَّق الإيصال الواجب.
والنَّتيجة إلى هنا: أنَّ صورة العلم أو الاطمئنان برضاه (عليه السلام) بصرفه في جهة معيّنة خارجةٌ عن مورد صحيحة يونس وغيرها من الرِّوايات الآمرة بالتّصدُّق.
إذا عرفت ذلك، فالإنصاف: أنَّ مصرف سهم الإمام (عليه السلام) في زمن الغيبة هو كلُّ ما أُحرز رضاه (عليه السلام) بصرفه فيه علماً أو اطمئناناً.
ولا إشكال في أنَّه يُحرز رضاه (عليه السلام) بصرفه في إقامة دعائم الدِّين، ومُؤنة طلاب العلم الَّذين يترتَّب على وجودهم أثرٌ مهمٌّ من نفع المؤمنين بالوعظ والإرشاد، وبيان الحلال والحرام، وإصلاح ذات البين.
كما أنَّه لا إشكال في إحراز رضاه (عليه السلام) بصرفه على الأيتام والأرامل والضُّعفاء من شيعته ومواليه الَّذين هم في غاية الفقر والفاقة وكمال الدِّيانة والتُّقى.
وأيضاً لا إشكال في إحراز رضاه (عليه السلام) بصرفه على بني هاشم المحتاجين المعوزين الَّذين لا حِيلة لهم، ولا يعلمون كيف يفعلون، ولا يدرون أين يتوجّهون.
وبالجملة، فكلُّ موردٍ أُحرز رضاه (عليه السلام) به جاز صرفه فيه.
نعم، لابُدّ من ملاحظة الأهمّ فالأهمّ، وأهمُّها صرفه على الحوزات العلميّة المُنتجة، فإنْ بقي منه شيءٌ يُصرف على باقي الجهات الأهمّ فالأهمّ.
ومع ذلك، فالأحوط: نيَّة التّصدُّق عنه (عليه السلام).
([1]) السرائر: ج1، ص499.
([2]) الوسائل باب 7 من أبواب اللُّقطة ح2.