الدرس 1160 _كتاب الخمس 40
وبالمقابل، ذهب جماعة من الأعلام إلى أنَّه لقُطة: منهم المحقِّق في الشَّرائع، والعلاَّمة في المختلف، والشَّيخ في المبسوط، والمصنِّف هنا وفي البيان، والشَّهيد الثَّاني في المسالك، والفاضل المقداد (رحمهم اﷲ)، وفي التَّنقيح: (أنَّ عليه الفتوى...)([1]).
أقول: أمّا مَنْ ذهب إلى أنَّه لُقطة أو بحكمها، فقد استُدلّ له بأربعة أدلَّةٍ:
الأوَّل: أنَّ الأصل بقاء هذا المال على ملك مالكه، فلا يملكه الواجد بمجرَّد وجدانه.
وأُجيب على هذا الدليل: بأنَّ الأصل عدم جريان يد محترمة عليه، فيجوز تملّكه حينئذٍ. ولكن سيأتي ما في هذا الأصل من كلام.
الثَّاني: بأنَّه مال ضائع في دار الإسلام عليه أثر الإسلام، فيكون لُقطةً كغيره ممَّا يُوجد في بلاد المسلمين ممَّا جرت عليه يد مسلم.
وفيه: أنَّ اللُّقطة هي: المال الضَّائع، فلا تنطبق على الكنز الَّذي هو: المال المدّخر قصداً غالباً.
الثَّالث: بأنَّ اشتمال الكنز على أثر الإسلام مع كونه في دار
الإسلام أمارةٌ قويّةٌ على كونه ملكاً لمسلم، فلا يحلّ التّصرُّف فيه إلاَّ بإذن صاحبه.
وفيه: أنَّ وجوده في دار الإسلام مع وجود أثر الإسلام عليه لا يُوجبان العلم بكونه لمسلم، بل غاية ما يوجبانه الظَّنّ بذلك، والظَّنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً، كما لا يُعوَّل على الظَّنّ الحاصل من أحدهما اتِّفاقاً.
الرَّابع: موثَّقة محمَّد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) (قَاْل: قضى عليٌّ (عليه السلام) في رجلٍ وجد وَرِقاً([2]) في خربة: أن يُعرِّفَها، فإن وَجَد مَنْ يعرفها، وإلاَّ تمتَّع بها)([3]).
ووجه الشَّاهد فيه: أنَّ الحكم المذكور فيه هو حكم اللُّقطة.
وفيه: أنَّه لا يظهر من هذه الموثَّقة كون الوَرِق مكنوزاً، ولا كونه ممَّا عليه أثر الإسلام.
ولو سُلِّم بذلك، فيمكن حَمْلها على الخربة المعروفة المالك، فيكون المراد تعريف مالك الخربة، أي يُعرّف مالك الخربة، فإن عرفها فتُعطى له، وإلاَّ فلا.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى جواز التَّملُّك، وأنَّ عليه الخُمُس، فقد يُستدلّ له: بأنَّ الأصل في الأشياء الإباحة، والتّصرُّف في مال الغير إنَّما ثبت
تحريمه إذا ثبت كون المال لمحترم، أو تعلَّق به نهيٌ، خصوصاً أو عموماً، والكلّ هنا منتفٍ.
وفيه: أنَّ الأصل في مال الغير مطلقاً هو الاحترام وعدم جواز التّصرُّف فيه، إلاَّ أن يدلّ دليل على خلافه كما ثبت في مال الحربيّ، حيث يجوز أخذه والتّصرُّف فيه وهذا أصل عقلائيّ ممضى في الشَّريعة، كقاعدة اليد، وغيرها من القواعد العُقلائيّة، وليس هذا الأصل مشروطاً بالإسلام، بل الكفر مانعٌ من العمل به، فإذا شككنا في مال أنَّه لمسلم أو لحربيّ، كان مقتضى هذا الأصل عدم جواز التّصرُّف فيه؛ لأنَّ الأصل عدم المانع من هذا الأصل.
نعم، لو كان منشأ هذا الأصل أي أصل الاحترام في مال الغير مطلقاً التَّوقيع المرويّ عن صاحب الزَّمان (عج)، حيث روى الشَّيخ الصَّدوق (رحمه اﷲ) في إكمال الدِّين بسنده عن أبي الحسين محمَّد بن جعفر الأسديّ (قَاْل: كان فيما ورد عليَّ ]من] الشَّيخ أبي جعفر محمَّد بن عثمان العَمْريّ (رضوان الله عليه) في جواب مسائلي إلى صاحب الدَّار (عليه السلام) إلى أن قال: وأمّا ما سألت عنه من أمر الضِّياع الَّتي لناحيتنا، هل يجوز القيام بعمارتها، وأداء الخراج منها، وصرف ما يفضل من دخلها إلى النَّاحية احتساباً للأجر وتقرُّباً إليكم؟ فلا يحلّ لأحد أن يتصرّف في مال غيره بغير إذنه، فكيف يحلّ ذلك في مالنا ؟!...)([4]).
وقد ذكر بعض الأعلام أنَّ هذا الحديث ضعيف؛ لأنَّ الشَّيخ الصَّدوق (رحمه اﷲ) رواه عن مشايخه الأربعة: محمَّد بن أحمد الشّيباني، وعليّ بن أحمد بن محمَّد الدَّقاق، والحسين بن إبراهيم المؤدِّب، وعليّ بن عبد اﷲ الورَّاق، وهؤلاء المشايخ لم يرد فيهم توثيق بالخصوص، فلأجل ذلك رموا هذا الحديث بالضَّعف.
ولكنَّ الإنصاف كما ذكرنا سابقاً في المجلد الأوَّل من كتاب الصلاة([5]): أنَّ الشَّيخ الصَّدوق (رحمه اﷲ) ترحَّم عليهم كثيراً، مع كون بعضهم كثير الرِّواية، وهذا وإن لم يُوجب التَّوثيق، لكنَّ ضمّ بعضهم إلى البعض الآخر يُوجب الاطمئنان بصِدْق حكايتهم للحديث.
والخلاصة: أنَّه لا مجال للقدح في هذا التَّوقيع من هذه الجهة.
وعليه، فلو كان منشأ هذا الأصل هو هذا الحديث الشَّريف لأُشكل: بأنَّ عموم هذا الحديث مخصَّصٌ بالكافر الحربيّ، ومع الشَّكّ في كون المالك مسلماً أو كافراً حربيّاً تكون الشُّبهة مصداقيّةً، ومن المعلوم عدم صحَّة التّمسُّك بالعامّ في الشُّبهة المصداقيّة، فيُرجع حينئذٍ إلى أصل الإباحة، فيجوز تملُّكه.
ولكنَّك عرفت: أنَّ هذا الأصل هو أصلٌ عقلائيٌّ غيرُ مبنيٍّ على هذا الحديث الشَّريف؛ بدليل أنَّ الأعلام التزموا بهذا الأصل مع عدم عملهم بهذا الحديث.
وعليه، فمقتضى هذا الأصل أي أصل الاحترام في مال الغير مطلقاً عدم جواز التّصرُّف فيه ما لم يُحرز أنَّه لكافر حربيّ.
وتكون النَّتيجة مع عدم إحراز كونه لكافرٍ حربيّ: أنَّه لُقطة، أو بحكم اللُّقطة.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هذا الأصل، وإن كان أصلاً عقلائيّاً، كباقي الأصول العقلائيّة، إلاَّ أنَّه لا موضوع له هنا، إلاَّ إذا احتملنا أنَّ هذا المال لمالك مسلم أو ذمّيّ، فيجري الأصل حينئذٍ، وتكون النَّتيجة: عدم جواز التّصرُّف فيه.
([1]) حكاه عنه في الجواهر: ج16، ص29.
([2]) الورق مثلثة كـ كتف، وجبل : الدَّراهم المضروبة.
([3]) الوسائل باب 5 من أبواب اللقطة ح5.
([4]) الوسائل باب 3 من أبواب الأنفال ح7.
([5]) مسالك النفوس إلى مدارك الدُّروس: كتاب الصلاة، المجلّد الأوَّل، ص323.