الدرس173 _لباس المصلي 46
وأمَّا جوابهم الثالث: بأنَّ موثّقة ابن بكير آبية عن التخصيص، فقد تكفّل بالردّ عليه صاحب الجواهر R، حيث قال ردّاً على صاحب المدارك R «يدفعه أنّ مثله لا يقدح في التخصيص في المتصل قطعاً، فكذا المنفصل خصوصاً مع اندراج بعض أفراد السّؤال في عموم الجواب».
وتوضيحه: أنّه لو سُئِل شخص عن إكرام زيد العالم، فأجيب أكرم كلّ عالم إلاّ زيداً، لَمَا كان فيه إشكال وحزازة، فكذلك في المخصِّص المنفصل.
ويرد على كلام صاحب الجواهر R: أنَّ ما ذكره إنّما يتمّ في المخصِّص المتصل، حيث لم ينعقد للكلام ظهور إلاّ فيما عدا الخاصّ من أوّل الأمر، وهذا بخلاف المخصِّص المنفصل، كما لو سُئِل عن إكرام زيد العالم، فأجاب: بوجوب إكرام كلّ عالم، ثمَّ دلّ دليل منفصل على أنّ زيداً العالم لا يجوز إكرامه، فإنّه يتحقّق التنافي بين الدليلين في هذا الفرض، لأنّ العام قد انعقد له ظهور قبل مجيء الخاص، فلا يصحّ الجمع بينهما بتخصيص المورد، حيث إنّ العام بمنزلة النصّ بالنسبة إلى ما وقع عنه السّؤال، فكيف يُقاس الدليل المنفصل بالمخصِّص المتصل؟!.
ومقامنا من هذا القبيل، فإنّ الرّوايات المجوِّزة من المخصّص المنفصل بالنسبة لموثّقة ابن بكير، وهي عامة.
والإنصاف: أنّ موثّقة ابن بكير غير آبية عن التخصيص، وذلك أنّ سَوْق السّؤال يشهد بأنّ السّائل لم يقصد خصوص ما جرى ذكره في كلامه عن الصَّلاة في الثعالب والفنك والسنجاب، بدليل قوله «وغيره من الوبر».
وعليه، فما أورده إنّما هو على سبيل التمثيل، فأراد بذلك السّؤال عن الصَّلاة في وبر غير المأكول على سبيل العموم، فأجيب بجواب عام من غير التفات إلى خصوصيّات الأمثلة، فليس خروج السنجاب على هذا التقدير إلاَّ كخروج الخزّ.
أضف إلى ذلك: أنّه يمكن أن يُقال: فرق بين ما لو وقع السّؤال عن أشياء عديدة، فأجيب عن جملتها بجواب عام، كما في المقام، وبين ما لو سُئِل عن شيء أو شيئين بالخصوص، ففي الثاني لا يجوز تخصيص المورد.
وأمَّا في الأوَّل: فلا مانع منه بالنسبة إلى بعضه إذا بقي أغلب ما وقع عنه السّؤال مندرجاً تحت عموم الجواب.
والخلاصة: أنَّ القول بالجواز هو الأقوى، وإن كان الأحوط استحباباً ترك الصَّلاة في وبر السّنجاب وجلده.
ثمَّ إنّه لو فرضنا عدم إمكان التخصيص والتزمنا بعموم موثّقة ابن بكير، فإنَّ مقتضى الصناعة العلميّة هو تقديم موثّقة ابن بكير، لمخالفتها للعامة، وموافقة الروايات المجوِّزة لروايات العامّة، فتُحْمَل حينئذٍ على التقيّة.
كما يؤيِّد ذلك: رواية محمّد بن علي بن عيسى «قال: كتبت إلى الشيخ يعني الهادي N أسأله عن الصَّلاة في الوبر، أيّ أصنافه أصلح؟ فأجاب: لا أحبّ الصَّلاة في شيءٍ منه، قال: فرددت الجواب، إنَّا مع قوم في تقيّة، وبلادنا بلاد لا يمكن أحد أن يسافر فيها بلا وبر، ولا يأمن على نفسه إنْ هو نَزَع وبره، وليس يمكن للناس ما يمكن للأئمة، فما الذي ترى أن نعمل به في هذا الباب؟ قال: فرجع الجواب إليّ: تلبس الفنك، والسّمور»[i]f271، وهي ضعيفة بالإرسال، وبجهالة بعض رجالها.
إن قلت: كيف تحمل الروايات المجوِّزة على التقيّة، مع أنّها فصّلت، حيث جوزت الصَّلاة في بعض ما لا يُؤْكل، كالسنجاب والفنك والثعالب، ونحوها، ولم تجوِّز في غيرها، مع أنّ المحكي عن العامة القول بالجواز مطلقاً.
قلت: قد لا تقتضي المصلحة إلاَّ التقيّة منهم في بعض الموارد، دون بعض، وهذا يختلف بحسب ما تقتضيه مصلحة الوقت من حيث ميل حكّامهم وقضاتهم، وغير ذلك من المناسبات.
ثمَّ إنّ السّنجاب على ما ذكره في كتاب مجمع البحرين : «حيوان على حدّ اليربوع، أكبر من الفأرة شعره في غاية النعومة، يتخذ من جلده الفراء، يلبسه المتنعّمون، وهو شديد الختل، إن أبصر الإنسان صعد الشجرة العالية، وهو كثير في بلاد الصقالبة والترك، وأحسن جلوده الأزرق الأملس...».
ثمَّ اعلم أنّه يعتبر التذكية فيه، لأنّه من ذي النفس، فمع عدمها يندرج فيما دلّ على المنع من الميتة، قال المصنِّف R في الذكرى: «فرع إنَّما يجوز الصَّلاة فيه مع تذكيته، لأنَّه ذو نفس قطعاً، والدّباغ غير مطهّر عندنا، وقدِ اشتُهر بين التجَّار والمسافرين أنّه غير مذكَّى، ولا عبرة بذلك، حملاً لتصرف المسلمين على ما هو الأغلب، نعم لو عُلِم ذلك حَرُم استعماله».
أقول: لا إشكال في كفاية يد المسلم في الحكم بتذكيته كغيرها من الأمارات السابقة.
نعم، إذا لم يكن عليه إحدى الأمارات السابقة من يد المسلم، أو سوق المسلمين، أو أرضهم، فإنّ الأصل عدم التذكية، والله العالم.
[i] الوسائل باب 7 من أبواب لباس المصلّي ح7.