الدرس 88 _ المقصد الأول في الاوامر 20
المحاولة الثالثة: وهي للمحقق الآغا ضياء الدين العراقي (رحمه الله)، وحاصلها: إن كان قصد الأمر؛ أي داعيه، مأخوذاً في المتعلّق، والحال أنَّ كلّ أمر له دعوة واحدة، وهي الدعوة إلى متعلّقه، فيكون الأمر داعياً إلى متعلّقه المركّب من أجزاء وشرائط بالأمر الاستقلالي، وداعياً إلى قصد الأمر بالأمر الضمني؛ لفرض أنَّ قصد الأمر جزء من المتعلق، فيلزم من أخذ قصد الأمر في متعلّقه أن يكون الشيء داعياً إلى نفسه، والشيء لا يدعو إلى نفسه، وإنَّما يدعو إلى غيره الذي تعلق به.
استحالة الإطلاق باستحالة التقييد:
بعد أن تمّت المحاولات الثلاث لإثبات استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلقه، يبقى من الجهة الأولى من المقام الأوّل أي فيما إذا كان الداعي قصد الامثتال الكلامُ عمّا إذا كان يلزم من استحالة التقييد استحالة الإطلاق أيضاً.
ذهب الميرزا النائيني (رحمه الله) إلى استحالة الإطلاق باستحالة التقييد؛ لأنَّ تقابلهما تقابل الملكة وعدمها ثبوتاً وإثباتاً، كما هي طريقة سلطان المحققين ومن تأخّر عنه. فهنا الكلام من جهتين:
الأولى: هل التقابل بين الإطلاق والتقييد تقابل الملكة وعدمها؟
الثانية: لو سلّمنا بهذا التقابل، فهل يلزم من استحالة أحدهما استحالة الآخر مطلقاً؟
فنقول: أمّا فيما يخص الجهة الأولى، فلا إشكال في كون التقابل بينهما في مقام الإثبات تقابل الملكة وعدمها؛ فإن كان المولى في مقام البيان، ولاحظ انقسامات وخصوصيات المتعلق، ولم يقيّده بشيء منها، فيكون مريداً للإطلاق، وإن قيّده بشيء منها، فيكون مريداً للتقييد.
وعليه، يتضح أنَّ التقييد وجود قيد، بينما الإطلاق عدمه، فيتقابلان تقابل الملكة وعدمها، لا تقابل الضدين؛ لأنَّ أحدهما أمرٌ عدمي، وهو الإطلاق. ولا تقابل النقيضين؛ لأنَّ الإطلاق عبارة عن عدم خاص عمّا من شأنه الاتصاف بوجود التقييد من جهة، ولأنَّ كلاًّ من الإطلاق والتقييد يرتفعان حال إهمال الشارع لكلّ منهما، وإرادته بيان أصل التشريع.
أمّا في مقام الثبوت، فالتقابل بينهما تقابل الضدّين، كما هو مسلك من تقدّم على سلطان المحققين؛ لأنَّ الشارع في هذا المقام يلحظ المتعلّق بجميع انقساماته وخصوصيّاته، فإن كانت متساوية الأقدام بالنسبة إلى الحكم، رفضها، وإلا أخذ القيد الذي له دخالة في ملاك الحكم. ولا يعقل الإهمال في مقام الثبوت، بأن لا يكون مطلقاً ولا مقيَّداً؛ لأنَّ مردّ ذلك إلى الجهل بالخصوصيات والانقسامات، أو العجز عن أخذها في المتعلّق، وكلّ منهما مستحيل في حقه سبحانه وتعالى .
وعليه، يتضح أنَّ الإطلاق والتقييد في هذا المقام أمران وجوديّان؛ إذ الإطلاق لحاظ الانقسامات والخصوصيات ورفضها، والتقييد لحاظهما وأخذ ما له دخالة في ملاك الحكم.
ثمَّ لو سلّمنا بأنَّ التقابل بينهما ثبوتاً تقابل الملكة وعدمها، فهل يلزم من استحالة التقييد استحالة الإطلاق أيضاً؟
ذهب الميرزا (رحمه الله) إلى الاستحالة، فإنَّ هذا معنى تقابل الملكة وعدمها؛ كالتقابل بين العمى والبصر؛ إذ استحالة اتصاف الحجر بالبصر، يلزمه استحالة اتصافه بالعمى أيضاً.
الجواب: صحيح أنَّ العدم في تقابل الملكة وعدمها عبارة عن عدم خاص، وهو عدم عمّا من شأنه أن يتصف بوجود الملكة، إلا أنَّه يكفي الاتصاف في الجملة؛ أي اتصاف جنس المورد أو نوعه أو صنفه، ولا يشترط اتصاف شخص المورد بها؛ مثلاً: مع أنَّ التقابل بين العلم والجهل تقابل الملكة وعدمها، إلا أنَّنا نجد أنَّ الممكن يستحيل عليه العلم والإحاطة بحقيقة واجب الوجود، إلا أنَّ استحالة علمه هذا لا يلزمها استحالة جهله أيضاً؛ لضرورة اتصافه بالجهل بحقيقته.
وأيضاً فعدم البصر في العقرب عمى وعدم ملكة لكون جنسه وهو الحيوان موضوعاً قابلاً للبصر وإن كان نوعه غير قابل له كما قيل.
وكذلك بالنسبة إلى القدرة والعجز، فإنَّ تقابلهما تقابل الملكة وعدمها، ورغم ذلك لا يلزم من استحالة قدرة الإنسان على الطيران بنفسه عادة، استحالة عجزه عنه أيضاً؛ لضرورة اتصافه بالعجز عن ذلك.
وأمّا بالنسبة لعدم اتصاف الحجر بالعمى، فإنَّما هو لعدم كونه قابلاً للاتصاف بالبصر في تمام أفراده، وبالجملة فإنَّ الملكة مفقودة في جميع أفراده، وهنا يستحيل اتصافه بالعمى. وعليه، ما ذهب إليه النائيني من أنَّه يلزم من استحالة أحدهما استحالة الآخر في غير محلّه.