الدرس 130_ التكسّب الحرام وأقسامه (125). خامسها: تعلَّق حقّ غير البائع به
ثمَّ إنَّه بقي شيء في المقام لا بأس بالتَّعرُّض له، وهو ما ذكره الشَّيخ الأنصاري، حيث قال: «إنَّ جواز البيع لا ينافي بقاء الوقف إلى أنْ يباع، فالوقف يبطل بنفس البيع لا بجوازه إلى أن قال: إلاَّ أنَّه ذكر بعضٌ في هذا المقام أشار بذلك إلى صاحب الجواهر (رحمه الله) : أنَّ الذي يقوى في النَّظر بعد إمعانه: أنَّ الوقف ما دام وقفاً لا يجوز بيعه، بل لعلَّ جواز بيعه مع كونه وقفاً مِنَ التَّضادّ؛ نعم، إذا بطل الوقف اتَّجه حينئذٍ جواز بيعه، ثمّ ذكر بعض مبطلات الوقف المسوِّغة لبيعه، وقد سبقه إلى ذلك بعض الأساطين في شرحه على القواعد أشار بذلك إلى الشَّيخ جعفر كاشف الغطاء (رحمه الله) إلى أن قال وفيه: أنّه إنْ أُريد من بطلانه انتفاء بعض آثاره، وهو جواز البيع المسبَّب عن سقوط حقِّ الموقوف عليهم عن شخص العين أو عنها وعن بدلها، حيث قلنا: بكون الثَّمن للبطن الذي يبيع، فهذا لا محصَّل له، فضلاً عن أنْ يحتاج إلى نظر، فضلاً عن إمعانه، وإن أُريد به انتفاء أصل الوقف، كما هو ظاهر كلامه، حيث جعل المنع مِنَ البيع من مقوِّمات مفهوم الوقف، ففيه مع كونه خلاف الإجماع؛ إذ لم يقل أحد ممَّن أجاز بيع الوقف في بعض الموارد ببطلان الوقف، وخروج الموقوف عن ملك الموقوف عليه إلى ملك الواقف: أنَّ المنع عن البيع ليس مأخوذاً في مفهومه، بل هو في غير المساجد و شبهها قسم مِنَ التَّمليك؛ ولذا يطلق عليه الصَّدقة...».
والإنصاف أن يقال: أنَّه إن كان المراد من بطلان الوقف بطلان أصل الوقف، وخروج العين عن كونها وقفاً، ودخولها في ملك واقفها، فهو في غير محلِّه، كما ذكره الشَّيخ (رحمه الله)، بل هو معلوم الفساد.
وإنْ أُرِيد منه أنَّه بعد طروِّ مسوِّغات البَيْع يكون ملكاً طلقاً للموقوف عليهم، ولهم التَّصرُّف كيف ما شاؤوا كتصرُّف الملاّك في أموالهم، من جواز البَيْع والهبة والصَّلح عليه، ونحو ذلك، فهذا لا دليل عليه، مضافاً إلى أنَّه لم يلتزم به أحد.
وإنْ أريد منه بطلان الوقف من جهة البَيْع فقط، لا من جميع الجهات، بأن يكون جائز التَّصرُّف من جهة البَيْع، وأمَّا هبته وإجارته، وغير ذلك مِنَ التَّصرُّفات الموقوفة على الملك، فهي غير جائزة، فهذا هو الصَّحيح، بل لا محيص عنه، وإلاَّ لزم التَّضاد؛ إذ لا يعقل القول بالمنع عن جميع التَّصرُّفات في الوقف من حيث البَيْع والهبة والإجارة، ونحو ذلك، ومع ذلك يجوز البَيْع؛ للمسوِّغ.
والخلاصة: أنَّه إن كان مراد صاحب الجواهر وكاشف الغطاء t من بطلان الوقف، هو ما ذكرناه فقد تمَّ الوفاق، وإلاَّ فلا، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وفي الحَبْس والسُّكنى نظر، إذا لم يقترن بمدَّة، ومع اقترانها بالمدَّة المعلومة يجوز البيع. (انتهى كلامه)
(1) اِعلم أنَّه يجوز للمالك أن يحبس مُلْكه على جهة معيِّنة على أنْ يصرف نماءه فيها، ولا يخرج بذلك عن مُلْكه، كما أنَّه يجوز للإنسان أن يُسكِن داره مثلاً لزيد، كأنْ يقول له: أُسكنِك هذه الدَّار عشر سنين مثلاً، أو مدَّة عمرك أو عمري، ولا تخرج بذلك عن مُلْك صاحبها.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إذا كان الحبس والسُّكنى مقيدَيْن بمدَّة معيَّنة معلومة، فلا إشكال حينئذٍ في جواز البيع؛ لأنَّ المال لا زال على مُلْكه.
نعم، تكون العين مسلوبة المنفعة مدَّة الحبس والسُّكنى؛ إذ لا يجوز للمالك الرُّجوع قبل انقضاء مدَّة الحبس والسُّكنى.
وأمَّا إذا لم يقترن الحبس والسُّكنى بالمدَّة، كما لو قال له: أسكنتك هذه الدَّار مدَّة عمرك، ومن المعلوم أنَّ مدَّة حياته مجهولةً، ويتبعها جهالة مدَّة استحقاق منافع العين، فهل يجوز البيع في هذه الحال؟
قد يقال: بالمنع، لأنَّ البيع غرريٌّ، حيث لم تُعلِمِ المدَّة، والثَّمنُ يختلف باختلاف ذلك.
وبالجملة، فإنَّ الجهل بوقت التَّسليم، والجهل بمقدار المنفعة، يُوجِبان صِدْق الغَرَر، ومِنَ المعلوم أنَّ الثَّمن إنَّما يُدفَع بإزاء العين بلحاظ المنافع، فالجهل بمقدارها موجب للغَرَر.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّه يجوز البيع للنَّصِّ الخاصِّ، وهو حسنة الحسين بن نعيم عن أبي الحسن موسى (عليه السلام) «قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ جَعَلَ دَاراً سُكْنَى لِرَجُلٍ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، أَوْ جَعَلَهَا لَهُ وَ لِعَقِبِهِ مِنْ بَعْدِهِ، هَلْ هِيَ لَهُ وَلِعَقِبِهِ من بعده، كَمَا شَرَطَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ له: فَإِنِ احْتَاجَ يَبِيعُهَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قُلْتُ: فَيَنْقُضُ بَيْعُهُ الدَّارَ السُّكْنَى؟ قَالَ: لَا يَنْقُضُ الْبَيْعُ السُّكْنَى، كَذَلِكَ سَمِعْتُ أَبِي (عليه السلام)، قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): لَا يَنْقُضُ الْبَيْعُ الْإِجَارَةَ وَلَا السُّكْنَى، وَلَكِنْ تبِيعُهُ عَلَى أَنَّ الَّذِي اشتراه لَا يَمْلِكُ مَا اشْتَرَى حَتَّى تَنْقَضِيَ السُّكْنَى كمَا شَرَطَ، وكذا الْإِجَارَةُ...»[1]f57، ولا يخفى عليك أنَّ هذه الحسنة مخصِّصة لأدلَّة الغرر، والله العالم.
[1] الوسائل باب 24 من أبواب أحكام الإجارة ح3.