الدرس 129_ التكسّب الحرام وأقسامه (124). خامسها: تعلَّق حقّ غير البائع به
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا يجوز بيع الوقف، سواء كان على جهة عامَّة أو خاصَّة. (انتهى كلامه) (1) المعروف بين الأعلام قاطبةً قديماً وحديثاً عدم جواز بيع الوقف إلاَّ ما استثني وفي الواقع هناك تسالم بين الأعلام على عدم جواز البيع، بل يمكن دعوى ضروريَّة ذلك بين عوام المتشرِّعة فضلاً عن علمائهم.
ومن هنا اتَّفق الأعلام على أنَّ الأصل فيه المنع.
وأمَّا النصوص، فإنَّه يمكن دعوى تواترها على عدم جواز البيع، ومن جملة الرِّوايات الواردة في المقام: صحيحة محمَّد بن الحسن الصَّفَّار «أنَّه كَتَبَ إلى أبي محمَّد الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ (عليهما السلام) فِي الْوُقُوفِ، وَمَا رُوِيَ فِيهَا عَنْ آبَائِهِ S، فَوَقَّعَ (عليه السلام): الْوُقُوفُ تَكُونُ عَلَى حَسَبِ مَا يُوقِفُهَا أَهْلُهَا إِنْ شَاءَ الله تَعَالَى »[1]f54، ومن المعلوم أنّ مراد الواقف مِنَ الوقف تأبيد حَبْس العين، وإطلاق المنفعة.
ومن هنا كان مِنَ الصَّدقة الجارية، وأنَّها مِنَ التي لا ينقطع عمل ابن آدم فيها بعد موته، بلِ الظَّاهر أنَّ التَّأبيد المزبور من مقتضيات الوقف ومقدِّماته، فلا يجتمع مع البَيْع الذي يقتضي نقل العين، بل هو منافٍ له، لاسيَّما بعد تعلُّق حقِّ الأعقاب به.
ومنها: صحيحة أبي عليٍّ بن راشد «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام): قُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ، اشْتَرَيْتُ أَرْضاً إِلى جَنْبِ ضَيْعَتِي بِأَلْفَيْ دِرْهَمٍ، فَلَمَّا وفرت (وَفَّيْتُ) الْمَالَ خُبِّرْتُ أَنَّ الْأَرْضَ وَقْفٌ؟ فَقَالَ: لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الوقوف (الْوَقْفِ)، وَلَا تُدْخِلِ الْغَلَّةَ فِي مُلكِك (مَالِكَ)، ادْفَعْهَا إِلى مَنْ أُوقِفَتْ عَلَيْهِ، قُلْتُ: لَا أَعْرِفُ لَهَا رَبّاً، قَالَ: تَصَدَّقْ بِغَلَّتِهَا»[2]f55، وهي، وإن كانت ضعيفةً بطريق الكُلَيْني بجهالة محمَّد بن جعفر الرزَّاز، إلاَّ أنَّها صحيحة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله)، وهي واضحة الدَّلالة؛ لقوله (عليه السلام): «لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الوقف».
ومنها: صحيحة ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قَالَ: تَصَدَّقَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (عليه السلام) بِدَارٍ لَهُ بِالْمَدِينَةِ فِي بَنِي زُرَيْقٍ، فَكَتَبَ بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، هَذَا مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَهُوَ حَيٌّ سَوِيٌّ تَصَدَّقَ بِدَارِهِ الَّتِي فِي بَنِي زُرَيْقٍ صَدَقَةً، لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ حَتَّى يَرِثَهَا الله الَّذِي يَرِثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ...»[3]f56، وهي، وإن كانت ضعيفةً بطريق الشَّيخ الطُّوسي بجهالة محمَّد بن عاصم، والأسود بن أبي الأسود الدُّؤلي، إلاَّ أنَّها صحيحة بطريق الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله).
ووجه الاستدلال بها واضح؛ لأنَّ قوله (عليه السلام): «لا تباع ولا توهب»، وصف للصَّدقة التي هي مفعول مطلق للنَّوع، أي تصدَّق الأمير (عليه السلام) بداره صدقة من النَّوع الذي لا يباع ولا يوهب، وهو الوقف، مقابل الصَّدقة التي لا إشكال في جواز بيعها وهبتها، وهي الزَّكاة.
وأمَّا احتمال أن يكون قوله (عليه السلام): «لا تباع ولا توهب» شرطاً خارجيّاً، بأن يكون معناه: أنَّ عليّاً (عليه السلام) تصدق بداره التي في بني زريق، واشترط في ضمن عقد الصَّدقة أن لا تباع ولا توهب، وإن كان ممكناً، إلاَّ أنَّه خلاف الظَّاهر، وكذا غيرها مِنَ الرِّوايات الكثيرة.
وأمَّا الموارد التي يجوز فيها بَيْع الوقف فسنذكرها إن شاء الله تعالى عند تعرُّض المصنِّف (رحمه الله) لها في باب الوقف.