الدرس 128_ التكسّب الحرام وأقسامه (123). خامسها: تعلَّق حقّ غير البائع به
أقول: قدِ استُدلَّ للجواز بجملة مِنَ الرِّوايات:
منها: موثقة سعيد بن يسار «قَاْلَ: قلتُ لأبي عبد الله (عليه السلام): الرَّجلُ يُعطِي الزَّكاةَ، فيَقْسِمُها في أصْحَابِه، أَيَأْخُذُ مِنْها شَيْئاً؟ قَاْلَ: نَعَم»[1]f49.
ومنها: حسنة الحسين بن عثمان عن أبي إبراهيم (عليه السلام) «فِي رَجُلٍ أُعْطِيَ مَالاً يُفَرِّقُهُ فِيمَنْ يَحِلُّ لَهُ، أَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئاً لِنَفْسِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَمَّ لَهُ؟ قَالَ: يَأْخُذُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ مِثْلَ مَا يُعْطِي غَيْرَهُ»[2]f50.
ومنها: صحيحة عبد الرحمان بن الحجاج «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الْحَسَنِ (عليه السلام) عَنِ الرَّجُلِ يُعْطِي الرَّجُلَ الدَّرَاهِمَ يَقْسِمُهَا، وَيَضَعُهَا فِي مَوَاضِعِهَا، وَهُوَ مِمَّنْ تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ، قَالَ: لَا بَأْسَ أَنْ يَأْخُذَ لِنَفْسِهِ كَمَا يُعْطِي غَيْرَهُ، قَالَ: وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ إِذَا أَمَرَهُ أَنْ يَضَعَهَا فِي مَوَاضِعَ مُسَمَّاةٍ إِلاَّ بِإِذْنِهِ»[3]f51.
وأمَّا مَنْ ذهب إلى المنع، فقد يستدلُّ له بثلاثة أدلَّة:
الأوَّل: صحيحة عبد الرَّحمان بن الحجاج «قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنْ رَجُلٍ أَعْطَاهُ رَجُلٌ مَالاً لِيَقْسِمَهُ فِي مَحَاوِيجَ أَوْ فِي مَسَاكِينَ، وَهُوَ مُحْتَاجٌ، أَيَأْخُذُ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، وَلَا يُعْلِمُهُ؟ قَالَ: لَا يَأْخُذُ مِنْهُ شَيْئاً حَتَّى يَأْذَنَ لَهُ صَاحِبُهُ»[4]f52.
قال في الحدائق: «وقد أسندها العلاَّمة (رحمه الله) في التَّحرير إلى الصَّادق (عليه السلام)، كما نقله في المسالك، قال: وهو شهادة الاتصال، ولعلَّه (رحمه الله) اطَّلع على المسؤول من محل آخر غير المشهور في كتب المحدثين».
وبالجملة، فلا إشكال من حيث السَّند.
هذا، وقد جمع بعض الأعلام بين هذه الصَّحيحة، وبين غيرها، ممَّا تقدَّم بحمل النَّهي في هذه الصَّحيحة على أخذ أكثر ممَّا يعطي غيره، أو أنَّها محمولة على مَنْ عُيِّن له أشخاص لا يجوز أن يتعدَّاهم.
والأقرب: حَمْلها على الكراهة، كما عن الشَّيخ (رحمه الله) في المبسوط، وهو جمع عرفيٌّ.
الدَّليل الثَّاني للقول بالمنع: هو ظهور الأمر بالإعطاء والدَّفع ونحوهما للغير، بحيث لا يشمل نفسه.
وبالجملة، فإنَّ المخاطَب لا يدخل في أمر المخاطِب إياه في أمر غيره، فإنَّ الله تعالى إذا أمر نبيَّه أن يأمر أمَّته أن يفعلوا كذا، لم يدخل هو في ذلك الأمر.
وفيه: أنَّ الأمر بالإعطاء والدَّفع، لو سلِّم بظهوره في ذلك، فهو ظهور بدويٌّ لبعض الأفراد، وأقصاها التَّفاوت في الظُّهور، وإلاَّ فالدَّفع إلى نفسه إعطاء ودفع أيضاً، بعد أن صار هو باعتبار وكالته عن الغير بمنزلة شخصين.
وأمَّا القول: بأنَّ المخاطَب لا يدخل في أمر المخاطِب إياه في أمر غيره، فهو أوَّل الكلام.
ومن هنا ذكر في علم الأصول دخوله (صلّى الله عليه وآله) فيما أمر به من قول: «ياأَيُّهَا النَّاسُ »، ونحوه، فيكون حينئذٍ آمراً ومأموراً من جهتَيْن.
على أنَّه لو سلِّم به، فهو قرينة على الخروج، ومحلُّ الكلام إذا لم توجد قرينة على ذلك.
كما أنَّ الدُّخول في موثقة سعيد بن يسار للقرينة أيضاً؛ ضرورة عدم دخول المأمور في الأصحاب، وفرض البحث شمول عنوان الوكالة للوكيل.
الدَّليل الثَّالث: كون المقام كالتَّوكيل في البَيْع والتَّزويج ونحوهما ممَّا لا يشمل الوكيل نفسه.
وفيه: أنَّ عدم دخول وكيل البَيْع والتَّزويج لو سلِّم به فإنَّما هو للنصِّ.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ ما ذهب إليه المشهور مِنَ الجواز هو الصَّحيح، والله العالم.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: والفضلات عند الصَّائغ كتراب الصياغة يجب دفعها إلى مالكها. (انتهى كلامه)
(1) لوجوب ردِّ المال إلى صاحبه، وهذا لا إشكال فيه بين الأعلام.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: فإنْ جُهِل تصدَّق بها عيناً أو قيمةً. (انتهى كلامه)
(2) ذكرنا سابقاً أنَّ المال المجهول مالكه يتصدَّق به على الفقراء عيناً أو قيمةً بعد أن يبيع العين، فراجع.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: ولا يجوز تملُّكها ولو كان الصَّائغ مستحقّاً للصَّدقة. (انتهى كلامه)
(3) لما ذكرناه سابقاً من أنَّ المال المجهول مالكه لا يتملَّكه مَنْ قبضه، بل يتصدَّق به، وليس هو مثل اللُّقطة التي يجوز تملُّكها بعد التَّعريف سنَّة.
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وفي رواية عليِّ الصائغ: «تصدَّق بالتراب إمَّا لك، أو لأهلك، أو قريبك» وأنَّه لو خاف مِنِ استحلال صاحبه التُّهمة، جازت الصَّدقة به. (انتهى كلامه)
(4) ذكرنا الرِّواية سابقاً[5]f53 عند الكلام عن عدم وجوب الفحص عَنِ المجهول المالك، وقلنا هناك: إنَّ الرِّواية ضعيفة بعدم وثاقة عليِّ بن ميمون الصَّائغ، وبالإضمار، وقلنا أيضاً: إنَّها واردة في معلوم المالك، فراجع.