الدرس 90 _ تنبيهات الأقل والأكثر 1
[أصالة الاشتغال: تنبيهات الأقلّ والأكثر]
[التنبيه الأوّل: الشكّ في كون الشيء قيداً للمأمور به]
*قال صاحب الكفاية: «الأوّل أنه ظهر ممّا مرّ حال دوران الأمر بين المشروط بشيء ومطلقه وبين الخاص كالإنسان وعامه كالحيوان، وأنه لا مجال ههنا للبراءة عقلاً، بل كان الأمر فيهما أظهر، فإن الانحلال المتوهم في الأقل والأكثر لا يكاد يتوهم ههنا... إلخ».*
أقول: إنّ الأصل في هذه المطالب وتقسيمها للشيخ الأنصاري (رحمه الله)، ولذا ينبغي بيان ما ذكره الشيخ الأنصاري بشكل مختصر، ثمّ نرى ما هو الإنصاف في المسألة؟ وما هو رأي صاحب الكفاية في المسألة أيضاً؟
قال (رحمه الله) بعد بيان حكم الأجزاء الخارجية في القسم الأوّل: «وأمّا القسم الثاني وهو الشكّ في كون الشيء قيداً للمأمور به. فقد عرفت أنّه على قسمين... إلخ». (انتهى كلامه).
وحاصله: إنّه قد تعرّض لحكم موارد ثلاثة من الأجزاء التحليليّة:
أحدها: المطلق والمشروط.
وثانيها: المطلق والمقيّد.
وثالثها: الدوران بين التعيين والتخيير.
واختار في كلّ منها انحلال العلم الاجمالي.
فقال في الأوّل: فالكلام فيه هو الكلام فيما تقدّم، فلا نطيل في الإعادة.
وقال في الثاني بعد التعرّض لمقالة المحقق القمي وهي التفصيل بين المطلق والمقيّد، وبين المطلق والمشروط بجريان البراءة في الثاني والاشتغال في الأوّل : فالتحقيق أنّ حكم الشرط بجميع أقسامه واحد، سواء ألحقناه بالجزء أم بالمتباينين.
والفرق بين هذين القسمين: هو أنّ الخصوصية وهي التقيد في الأوّل: منتزعة من موجود أصيل ممتاز عن وجود الواجب، سواء كان التقيّد بالوجود، كتقيّد الصلاة بوجود الطهارة في مثل قوله (عليه السّلام): «لا صلاة إلا بطهور»( ). أم بالعدم، مثل تقيّد الصلاة بعدم كون اللباس ممّا لا يؤكل.
وفي الثاني: منتزعة ممّا يتّحد مع الواجب ويقوم به قيام العرض بمعروضه، كالإيمان القائم بالرقبة.
وقد اصطلحوا على الأوّل بالمطلق والمشروط، وعلى الثاني بالمطلق والمقيّد.
وقال في الثالث: وممّا ذكرنا يظهر الكلام فيما لو دار الأمر بين التخيير والتعيين، كما لو دار الواجب في كفارة رمضان بين خصوص العتق للقادر عليه، وبين إحدى الخصال الثلاث، فإنّ في إلحاق ذلك بالأقلّ والأكثر فيكون نظير دوران الأمر بين المطلق والمقيد أو المتباينين وجهين، بل قولين...إلى أن قال: لكن الأقوى فيه الإلحاق، فالمسائل الأربع في الشرط حكمها حكم مسائل الجزء. هذا حاصل كلامه (رحمه الله).
أقول: أمّا القسم الأوّل: فالحقّ ما ذكره الشيخ الأعظم (رحمه الله) من جريان البراءة العقلية والشرعية.
أمّا على ما اخترناه سابقاً من عدم وجود العلم الاجمالي حقيقة بالنسبة إلى ذات التكليف، بل عندنا علم تفصيلي وشكّ بدوي، فواضح ولا كلام. نعم، العلم الاجمالي إنّما هو بالنسبة إلى حدّ التكليف لا إلى ذاته.
وأمّا على ما ذكره الأعلام، فالمسألة أيضاً واضحة، لأنّ المناط في جريان الأصل هو أن يكون المشكوك فيه ممّا تناله يد الوضع والرفع الشرعي ولو بوضع منشأ الانتزاع ورفعه، وأن يكون في رفعه منّة وتوسعة على المكلفين. وهذا المناط يعمّ الشكّ في الأجزاء والشروط على نسق واحد. وعليه، في مقامنا هنا تجري البراءة عن الاشتراط، ولا تعارضها أصالة البراءة عن الاطلاق، لعدم كون الاطلاق ضيقاً على المكلّف، ولا يكون في رفعه منّة، فلا يكون مورداً للبراءة في نفسه.
وأمّا القسم الثاني: فأيضاً تجري فيه البراءة العقلية والشرعية، ومثاله ما لو دار أمر الرقبة الواجب عتقها بين كونها خصوص المؤمنة أو الأعمّ منها ومن الكافرة. وعليه، فإنّ تعلّق التكليف بالطبيعي المردّد بين الاطلاق والتقييد معلوم اجمالاً، فتجري أصالة البراءة عن التقييد بلا معارض، ولا تعارض بأصالة البراءة عن الاطلاق، لعدم كون الاطلاق ضيقاً وكلفة على المكلّفين، ولا يكون في رفعه منّة، فلا يكون مجرى للأصل في نفسه.
وأمّا صاحب الكفاية فقد منع من جريان البراءة العقلية في هذا القسم وفي القسم الأوّل، بدعوى أنّ جريان البراءة في موارد دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر مبني على انحلال العلم الاجمالي بكون الأقلّ متيقّناً على كلّ تقدير.
والمقام ليس كذلك، لأنّ وجود الطبيعي في ضمن المقيّد متّحد معه، بل عينه خارجاً ووجود الطبيعي في ضمن غيره ممّا هو فاقد للقيد مباين له، فلا يكون هناك قدر متيقّن في البين لينحلّ به العلم الاجمالي، وتجري أصالة البراءة.
ويرد عليه: أمّا على ما ذكرناه فواضح، إذ لا علم اجمالي حقيقة بالنسبة إلى ذات التكليف، بل هو علم تفصيلي متعلّق بذات الأقلّ وشك بدوي في الزائد.
وأمّا على مبنى جماعة من الأعلام، فالأمر أيضاً واضح، لأنّ الملاك في الانحلال جريان الأصل في بعض الأطراف بلا معارض، والمقام كذلك، فإنّ تعلّق التكليف بطبيعي الرقبة المردّد بين الاطلاق بالنسبة إلى الإيمان والكفر، وبين التقييد بخصوص الإيمان معلوم.
وهذا هو القدر المتيقّن، وإنّما الشك في خصوصية الاطلاق والتقييد، وحيث إنّ الاطلاق توسعة على المكلّف لا ضيقاً وكلفة عليه، فلا يكون مورداً لجريان الأصل في نفسه، فتجري أصالة البراءة عن التقييد بلا معارض.
وأمّا القسم الثالث: كما إذا أمر المولى عبده بإتيان حيوان، فشكّ في أنّه أراد خصوص الفرس أو مطلق الحيوان. ففي مثله، ذهب صاحب الكفاية والشيخ النائيني (رحمه الله) إلى عدم جريان البراءة. أمّا صاحب الكفاية (رحمه الله)، فقد تقدم وجه إشكاله، والجواب عنه.
وأمّا الشيخ النائيني (رحمه الله)، فذكر أنّ الجنس لا تحصّل له في الخارج إلا في ضمن الفصل، فلا يعقل تعلّق التكليف به إلا مع أخذه متميّزاً بفصل، فيدور أمر الجنس المتعلّق للتكليف بين كونه متميّزاً بفصل معين أو بفصل ما من فصوله. وعليه، فيكون المقام من موارد دوران الأمر بين التعيين والتخيير، لا من دوران الأمر بين الأقلّ والأكثر، لأنّه لا معنى للقول بأنّ تعلّق التكليف بالجنس متيقّن، وإنّما الشكّ في تقييده بالفصل، بل نقول: إنّ تقييده بالفصل متيقّن، وإنّما الشكّ والترديد في تقييده بفصل معيّن، أو بفصل من فصوله من غير تعيين، فيدور الأمر بين التعيين والتخيير، والعقل يحكم بالتعيين، فلا مجال للرجوع إلى البراءة عن كلفة التعيين.