الدرس 140_التكسّب الحرام وأقسامه (135). سادسها: ما يجب على المكلّف فعله
الدرس 140 / الثلاثاء: 09-شباط-2021
والإنصاف: أنَّه لا إشكال في إطلاق الرَّشوة على الأحكام، كما أنَّه لا إشكال عرفاً في إطلاقها على غير الأحكام، فتَصْدُق على ما يعطيه أحد الشَّخصين للآخر؛ لإبطال حقٍّ أو تمشية باطل، أو للوصلة إلى الحاجة بالمصانعة.
وممَّا يشهد لإطلاق الرِّشوة على غير الأحكام مجموع كلمات أكثر اللُّغويين، فإنَّ ذلك يفيد الاطمئنان، كما أنَّ العرف شاهدُ صِدْقٍ على ذلك.
وقد يستفاد أيضاً من قوله (عليه السلام) في صحيحة عمَّار المتقدِّمة[1]f75 «فأمَّا الرُّشا يا عمَّار في الأحكام...»، باعتبار أنَّه لو لم يكن مفهوم الرِّشوة شاملاً لغير الأحكام للزم إلغاء التَّقييد.
وقد يستفاد أيضاً من صحيحة محمَّد بن مسلم الدَّالَّة على جواز الرَّشوة للتَّحول عَنِ المنزل المشترك، كالأوقاف العامَّة «قال: سألتُ أبا عبد الله (عليه السلام) عَنِ الرَّجل يرشو الرَّجلَ الرَّشوةَ على أنْ يتحوَّل من منزلُه فيَسْكُنه، قال: لَاْ بَأْسَ»[2]f76.
قال صاحب الوسائل (رحمه الله): «الظاهر أنَّ المراد المنزل المشترك بين المسلمين، كالأرض المفتوحة عنوةً أو الموقوفة على قبيل، وهما منه».
وعليه، فيرشي السَّاكن فيه على أنْ يخرج منه ليسكنه هو.
لكن قد يستشكل على الاستدلال بهذه الصَّحيحة: بأنَّ الاستعمال أعم من الحقيقة والمجاز.
اللَّهمَّ إلاَّ أن يقال: إنَّ شيوع استعمال الرَّشوة كثيراً في غير الأحكام يكون قرينةً على كون الاستعمال حقيقيّاً، فتأمَّل.
وقد يستدلُّ أيضاً لإطلاق الرِّشوة على غير الأحكام بإطلاق رواية يوسف بن جابر «قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام): لَعَنَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله) مَنْ نَظَرَ إِلَى فَرْجِ امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَهُ، وَرَجُلاً خَانَ أَخَاهُ فِي امْرَأَتِهِ، وَرَجُلاً احْتَاجَ النَّاسُ إِلَيْهِ لتفقّهه فَسَأَلَهُمُ الرِّشْوَةَ»[3]f77، حيث إنّ إطلاقها شامل ما يدفع ليبذل الفِقه، سواء كان ذلك في القضاء أو التَّدريس، ويشمل أيضاً ما يدفع لأجل التصدّي لما هو من وظائف الفقيه كحِفْظ مال الصَّغير والغائب، وغير ذلك.
وفيه مع قطع النَّظر عمَّا ذكر سابقاً مِنَ الإشكال في كون الاستعمال أعمُّ مِنَ الحقيقة والمجاز : أنَّه ضعيف السَّند بجهالة عبد الرَّحمان، ويوسف بن جابر.
والخلاصة إلى هنا: أنَّ موضوع الرِّشوة لا يختصُّ بالأحكام، بل يشمل غيرها، والله العالم.
الأمر الرَّابع: في حكم الرُّشا في الأحكام تكليفاً ووضعاً:
أمَّا حكم الرِّشوة تكليفاً، فقدِ اتفقت كلمة الأعلام على الحرمة للآخذ والمعطي، فعن جامع المقاصد: «أجمع أهل الإسلام على تحريم الرُّشا في الحكم، سواء كان الحكم لحقٍّ أم لباطل، وسواء أكان للباذل أم عليه...»، وفي المسالك: «على تحريمه إجماع المسلمين...»، وفي الجواهر: «إجماعاً بقسمَيْه ونصوصاً مستفيضةً أو متواترة...»، وفي المستند للنراقي: «يحرم على القاضي أخذ الرشوة مثلثة الراء إجماعاً من المسلمين...».
أقول: هناك تسالم على التَّحريم بالجملة بين المسلمين سنَّة وشيعةً، قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار، بل ذلك من ضروريَّات الفِقه، بحيث خرجت المسألة عنِ الإجماع المصطلح عليه.
ومع ذلك، قدِ استدلَّ للحرمة بالكتاب المجيد والسُّنَّة النَّبويَّة الشَّريفة:
أمَّا الكتاب العزيز، فقوله تعالى: « وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُواْ فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُون ﴾ ]البقرة: 188[، وظاهر الآية الشَّريفة هو النَّهي عنِ الإدلاء بالمال إلى الحكَّام لإبطال الحقِّ، وإقامة الباطل، وهذا هو معنى الرِّشوة.
إن قلت: إنَّ الآية الشَّريفة نزلت في خصوص أموال اليتامى والوديعة، والمال المتنازع فيه، وقد نهى الشَّارع المقدس أن يعطى من هذه الأموال مقداراً للحكّام ويأكلون الباقي من أموالهم ظلماً وعدوناً، وعليه فلا ربط لها بالرِّشوة.
وفيه أوَّلاً: أنَّه لم يثبت بطريق معتبر أنَّها نزلت في خصوص أموال اليتامي والوديعة، والمال المتنازع فيه، وإنَّما ذَكَر ذلك المفسِّرون، وقولهم ليس بحجَّة ما لم يستندوا فيه إلى المعصوم (عليه السلام).
وثانياً: لو سلَّمنا بنزولها في خصوص أموال اليتامى والوديعة والمتنازع فيه، إلاَّ أنَّ ذلك لا يصلح دليلاً على عدم عموم الحكم لغير تلك الأمور؛ لإطلاق الآية الشَّريفة، والمورد لا يخصِّص الوارد.
وأمَّا السُّنَّة الشَّريفة، فهي متواترة معنى، ونقتصر على ذِكْر بعض الرِّوايات:
منها: صحيحة عمار بن مروان المتقدِّمة في الخصال، حيث ورد فيها «فأَمَّاْ الرُّشَاْ يا عمَّار في الأَحْكامِ فإنَّ ذلك الكُفْر بالله العظيم، وبرسولِه (صلّى الله عليه وآله)»[4]f78، وكذا صحيحته المروية في الكافي، حيث ورد في ذيلها: «فأمَّا الرُّشَاْ في الحُكْمِ، فإنَّ ذلك الكُفْرُ بالله العَظِيْمِ جَلَّ اسمه، وبِرَسُولِه (صلّى الله عليه وآله)»[5]f79.
ومنها: موثَّقة سماعة، حيث ورد في ذيلها «وأمَّا الرُّشَاْ في الحُكْمِ فَهُوَ الكُفْرُ بالله العَظِيْمِ»[6]f80، ومضمرات سماعة مقبولة.
ومثلها روايته الأخرى[7]f81، إلاَّ أنَّها ضعيفة بحسن بن عليِّ بن أبي حمزة، وبالجاموراني محمَّد بن أحمد أبي عبد الله الرَّازي.
ومنها: مرسلة الفقيه «قال: قال (عليه السلام): أَجْرُ الزَّانِيَةِ سُحْتٌ إلى أن قال: فأَمَّاْ الرُّشَاْ في الحُكْمِ فَهُوَ الكُفْرُ بالله العَظِيمِ»[8]f82، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال.
ومنها: مرسلة مجمع البيان «قال: ورُوِي عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنَّ السُّحتَ أنواعٌ كثيرة، فأمَّا الرُّشَا في الحكمِ فهُوَ الكَفْر بالله»[9]f83.
وروت العامَّة عنِ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله): «أنَّه لَعَنَ الرَّاشِي والمُرْتَشِي والرَّائِش»[10]f84، يعني المُعطِي للرِّشوة والآخذ لها، والسَّاعي بينهما يزيد لهذا وينقص لهذا.
وروَوا عنِ النَّبيِّ (صلّى الله عليه وآله) أيضاً أنَّه قال (صلّى الله عليه وآله) «لعَنَ الله الرَّاشي والمرتشي في الحكم»[11]f85، وكذا غيرها من الرِّوايات الكثيرة.
والخلاصة: أنَّه لا إشكال في حرمة الرِّشوة في الحكم، سواء أخذها القاضي مِنَ الرَّاشي ليحكم له بالباطل مَعَ العلم ببطلان الحكم، أو مع جهله بالبطلان، وسواء أطابقَ حكمه الواقع أم لا.
وكذا يحرم لو أخذها مِنَ الرَّاشي ليحكم له بالحقِّ مَعَ العلم بالحقِّ، كلُّ ذلك لإطلاق الرِّوايات المتقدِّمة.
نعم، يستثنى من حرمة الرُّشا ما لو توقَّف تحصيل الحقِّ على بذله، فيجوز للرَّاشي، ويحرم على المرتشي، كما صرَّح به غير واحد؛ وذلك لقاعدة نفي الضَّرر الحاكمة على الأدلَّة الأوليَّة، بل في الجواهر: «لا أجد فيه خلافاً؛ لقصور أدلَّة الحرمة عن تناول الفرض الذي تدلُّ عليه أصول الشَّرع وقواعده المستفادة مِنَ الكتاب والسُّنة والإجماع والعقل؛ ضرورة أنَّ للإنسان التَّوصُّل إلى حقِّه بذلك ونحوه ممَّا هو محرَّم عليه في الاختيار، بل ذلك كالإكراه على الرُّشاء الذي لا بأس به على الرَّاشي معه عقلاً ونقلاً...».
[1] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح12.
[2] الوسائل باب 85 من أبواب ما يكتسب به ح2.
[3] الوسائل باب 8 من أبواب آداب القاضي ح5.
[4] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح12.
[5] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح1.
[6] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح3.
[7] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح2.
[8] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح8.
[9] الوسائل باب 5 من أبواب ما يكتسب به ح16.
[10] سنن ابن ماجة: ج2/ص775/2313، كنز العمّال: ج5، ص825.
[11] مسند أحمد: ج2، ص287.