الدرس 149 _اوصاف المستحقين للزكاة 24
قال الشهيد الأول (رحمه الله) في الدروس: وأقلّ ما يُعطى الفقير ما يجب في النِّصاب الأوَّل من النَّقدَيْن، إلاَّ مع الاجتماع والقصور(2)
(2) يقع الكلام في ثلاثة أمور:
الأوَّل: في المقدار الَّذي يُعطى الفقير من الزَّكاة من حيث القلّة.
الثَّاني: هل يعطى ذلك المقدار بنحو الوجوب أم الاستحباب؟
الثَّالث: هل الخلاف مختصّ بزكاة النَّقدَيْن أم يشمل سائر ما تجب فيه الزَّكاة؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فقدِ اختلف الأعلام في أقلّ ما يُعطى الفقير من الَّزكاة على خمسة أقوال:
الأوَّل: أنَّه لا يُعطى أقلّ ممَّا يجب في النِّصاب الأوَّل من النَّقدَيْن، وهو عشرة قراريط أو خمسة دراهم، حُكي ذلك عن الشَّيخ المفيد، والشَّيخ (رحمه الله) في جملة من كتبه، والسّيِّد المرتضى (رحمه الله) في الانتصار، وهو اختيار المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر والشرائع، وحُكي أيضاً عن الصَّدوقَيْن والحلبيّ (رحمهما الله)، بل نسبه المحقِّق (رحمه الله) في المعتبر إلى أكثر المتأخِّرين.
القول الثَّاني: أنَّ أقلَّ ما يُعطى هو ما يجب في النِّصاب الثَّاني، وهو قيراطان أو درهم، حُكي ذلك عن ابن الجنيد وسلاَّر والسّيِّد المرتضى (رحمهما الله) في المصريات.
القول الثَّالث: أنَّه لا يُجزئ أن يُعطى أقلّ من نصف دينار، حُكي ذلك عن الشَّيخ عليّ بن الحسين بن بابويه (رحمه الله).
القول الرَّابع: ما حُكي عن الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) في المقنع من أنَّه يجوز أن يُعطى الرَّجل الواحد الدِّرهمَيْن والثَّلاثة، ولا يجوز في الذهب إلاَّ نصف دينار.
القول الخامس: أنَّه لا حدّ لها في طرف القلّة، حُكي ذلك عن جمل السّيِّد والسَّرائر والقاضي والمصنِّف والشَّهيد الثَّاني (قدس سرهم)، وهو المشهور بين المتأخِّرين ومتأخِّري المتأخِّرين، وهو مقتضى الإنصاف عندنا كما سيتضح لك.
وقدِ استدلّ للقول الأوَّل بروايتَيْن:
الأولى: صحيحة أبي ولاَّد الحنّاط عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: سمعته يقول: لا يُعطى أحدٌ من الزَّكاة أقلّ من خمسة دراهم، وهو أقلّ ما فرض الله (عز وجل)من الزَّكاة في أموال المسلمين، فلا تعطوا أحداً (من الزكاة) أقلّ من خمسة دراهم فصاعداً»([1]).
الثَّانية: رواية معاوية بن عمار وعبد الله بن بكير جميعاً، عن أبي عبد الله (عليه السلام) «قال: لا يجوز أن يدفع الزَّكاة أقلّ من خمسة دراهم، فإنَّها أقلّ الزَّكاة»([2])، ولكنَّها ضعيفة بإبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم، فإنَّه إبراهيم بن إسحاق الأحمريّ الضعيف.
ثمَّ لا يخفى عليك: أنَّ هاتين الرِّوايتَيْن، وإن لم يذكر فيهما العشرة قراريط أي نصف الدِّينار الَّذي هو الواجب في أوَّل نصاب الذَّهب، إلاَّ أنَّ الظَّاهر إرادة مقدارها من الخمسة دراهم؛ لأنَّ ما يُعادلها في ذلك الوقت هو نصف الدِّينار، حيث كان كلّ دينار يعادل عشرة دراهم.
وأمَّا الأقوال الباقية، فلا دليل عليها، إلاَّ القول الأخير، وهو القول الخامس، حيث يستدلّ له بجملة من الرِّوايات:
منها: صحيحة محمَّد بن عبد الجبار «أنَّ بعض أصحابنا كتب على يدي أحمد بن إسحاق الى عليّ بن محمَّد العسكري (عليه السلام): أُعطي الرَّجل من إخواني من الزَّكاة الدِّرهمَيْن والثَّلاثة؟ فكتب: اِفعل، إن شاء الله تعالى»([3])، والرِّواية صحيحة، ولا يضرّها أنَّ الكاتب مجهول لشهادة محمَّد بن عبد الجبَّار بجواب الإمام (عليه السلام).
وأحمد بن إسحاق هو: إمَّا أحمد بن إسحاق بن عبد الله الأشعري، أو أحمد بن إسحاق الرَّازي، وكلّ منهما ثقة، ومن أصحاب الإمام الهاديّ (عليه السلام).
ومنها: صحيحة محمَّد بن أبي الصّهبان «قال: كتبت إلى الصَّادق (عليه السلام): هل يجوز لي يا سيدي! أن أُعطي الرَّجل من إخواني من الزَّكاة الدِّرهمَيْن والثَّلاثة الدِّراهم؟ فقد اشتبه ذلك عليّ! فكتب: ذلك جائز»([4]).
وقد يقال: إنَّ الرِّواية مرسلة؛ لأنَّ محمَّد بن أبي الصهبان الَّذي هو محمَّد بن عبد الجبَّار من أصحاب الإمام الهاديّ (عليه السلام)، فكيف يمكن أن يكاتب الصَّادق (عليه السلام) مع ما بينهما من الفصل الطَّويل؟!
وعليه، فهناك واسطة في البين، فتكون الرِّواية مرسلة.
والجواب: أنَّ المراد بالصَّادق هنا هو الإمام الهادي (عليه السلام)؛ لأنَّ التَّوصيف بالصَّادق كالتَّوصيف بالعالم يراد به معناه الوصفيّ لا العنوان اللَّقبي، ومن المعلوم أنَّ الأئمّة (عليهم السلام) كلّهم صادقون عالمون.
والحاصل: أنَّ الرِّواية صحيحة، ومقتضى الجمع العرفيّ هو حمل صحيحة أبي ولاَّد الحنَّاط ورواية معاوية بن عمَّار وعبد الله بن بكير بناءً على صحّة سندها على الكراهة، أي يُكره أن يُعطى أقلّ من خمسة دراهم، ويستحبّ أن يُعطى خمسة وما فوق؛ هذا هو مقتضى الصِّناعة العلميّة.
وأمَّا حمل صحيحة محمَّد بن عبد الجبار، وصحيحة محمد بن أبي الصهبان على التقية، كما صنع صاحب الحدائق (رحمه الله) ففي غير محلِّه؛ لأنَّ الحمل على التَّقيّة إنَّما يكون إن تعذَّر الجمع العرفيّ، ووصلت النَّوبة إلى التَّعارض، ولكنَّك عرفت أنَّ الجمع العرفيّ ممكن بحمل النَّهي في صحيحة أبي ولاد الحناط ورواية معاوية بن عمَّار وعبد الله بن بكير على الكراهة جمعاً بين الرِّوايات.
إن قلت: إنَّ الجمع العرفيّ بين صحيحة محمَّد بن أبي الصهبان وبين رواية معاوية بن عمَّار وعبد الله بن بكير غير ممكن؛ لأنَّ رواية معاوية بن عمار مشتملة على التَّعبير بـــ «لا يجوز»، وصحيحة محمَّد بن أبي الصّهبان مشتملة على التَّعبير بـــ «جائز»، ولا يمكن الجمع العرفيّ بين يجوز ولا يجوز، فهما متعارضتان.
قلتُ: هذا صحيح، إلاَّ أنَّه لا يضرّ بصحَّة الاستدلال؛ لأنَّ رواية معاوية بن عمَّار ضعيفة، كما عرفت.
ولا يُوجد تنافٍ بين صحيحة محمَّد بن عبد الجبَّار وصحيحة محمَّد بن أبي الصَّهبان، وبين صحيحة أبي ولاد الحنَّاط، بل يصح الجمع بينهما عرفاً بما عرفت من الحمل على الكراهة.
([1]) الوسائل باب 23 من أبواب المستحقين للزكاة ح2.
([2]) الوسائل باب 23 من أبواب المستحقين للزكاة ح4.
([3]) الوسائل باب 23 من أبواب المستحقين للزكاة ح1.
([4]) الوسائل باب 23 من أبواب المستحقين للزكاة ح5.