الدرس 4 _ مقدمات علم الأصول 4
وجوابه: أنَّ الموضوع في قولك: (الفاعل مرفوع) هو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، وما الفاعلية إلا واسطة في الثبوت؛ أي علّة ثبوت الرفع للكلمة، فلم يعرض الرفع أوَّلاً وبالذات على الفاعلية حتّى يكون واسطة في العروض، وكذا بالنسبة إلى نصب المفعول به وجرّ المضاف إليه. وموضوع علم النحو هو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، على أن يكون قيد الحيثية جهة تقييديّة. وعليه فقد اتحد موضوع العلم مع موضوعات مسائله.
إن قلتَ: إذا كان موضوع علم النحو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، للزم حينئذٍ أخذ عقد الحمل في عقد الوضع؛ أي أخذ المحمول في الموضوع، وبالتالي حمل الشيء على نفسه، وهو محال. وتوضيحه: بناءً على أنَّ موضوع العلم موضوع مسائله، فإذا كان موضوع علم النحو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، فتصير القضية النحوية (الكلمة إمّا معربة أو مبنية) كالتالي: (الكلمة المعربة أو المبنية إمّا معربة أو مبنية)؛ أي الكلمة المعربة معربة، والكلمة المبنيَّة مبنيَّة، وفي ذلك حمل الشيء على نفسه.
الجواب: ليس المراد من قضية (الكلمة المعربة أو المبنيّة إمّا معربة أو مبنيّة)؛ أي الكلمة المعربة فعلاً معربة فعلاً، والكلمة المبنيّة فعلاً مبنيّة فعلاً، وإنَّما المراد أنَّ الكلمة التي فيها قابلية واستعداد للإعراب هي معربة فعلاً، والكلمة التي فيها استعداد وقابلية للبناء هي مبنية فعلاً، وهذا التغاير في القابلية والفعلية بين الموضوع والمحمول كافٍ لرفع الإشكال، والله العالم.
المبحث الثالث: كيفيّة تمايز العلوم
قال صاحب الكفاية (رحمه الله): «وقد انقدح بما ذكرنا، أنَّ تمايز العلوم إنما هو باختلاف الأغراض الداعية إلى التدوين، لا الموضوعات ولا المحمولات، وإلا كان كلّ باب، بل كلّ مسألة من كلّ علم، علماً على حدة...».
أقول: ذهب مشهور العلماء إلى أنّ تمايز العلوم إنَّما يكون بالموضوعات، وتمايز الموضوعات، بحال لم تتمايز بذاتها، بالحيثيات، بينما ذهب صاحب الكفاية، كما ينصّ في عبارته، إلى أنَّ ملاك التمايز في الأغراض، فلا يكون الاختلاف بحسب الموضوع أو المحمول موجباً للتعدد، كما لا تكون وحدتهما سبباً لأنْ يكون من الواحد.
والسر في عدول صاحب الكفاية عن رأي المشهور هو أنَّنا نجد موضوع بعض العلوم واحداً مع أنَّها متعدِّدة؛ فمثلاً علم النحو والصرف والبلاغة والعروض واللغة، موضوعها واحد وهو الكلمة، رغم كونها متعددة. فلو كان التمايز بالموضوعات، للزم أن تكون هذه العلوم علماً واحداً؛ لأنَّ موضوعها واحد.
وكذلك لو كان ملاك تعدد العلوم اختلافَ الموضوعات، لكانت كلّ مسألة من مسائل العلم علماً على حدة؛ لاختلاف الموضوع فيها؛ فالموضوع في قولك: (الفاعل مرفوع)، يختلف عن الموضوع في قولك: (المفعول به منصوب)، وهكذا في قولك: (المضاف إليه مجرور)، وكذا غيرها من مسائل علم النحو، فيلزم أن تتعدد العلوم لتوفر ملاك التعدد فيها، وهو تمايز الموضوعات، خلافاً لقولنا أنَّ العلوم تتمايز بالأغراض، فإنّه بناءً على ذلك لا يلزم شيء من هذه الإشكالات.
وعليه فنقول: أمّا إشكاله الأول، فجوابه: إنَّ اختلاف الحيثيات كافٍ لتحقيق التغاير المطلوب في إثبات التعدد، فصحيح أنَّ (الكلمة) تشكّل موضوعاً للعلوم المذكورة، ولكن بالنسبة لعلم النحو، فالموضوع بلحاظ الحيثية التقييدية المميّزة له عن باقي العلوم ، هو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، بينما موضوع علم الصرف (الكلمة من حيث الصحة والاعتلال)، وموضوع علم البلاغة (الكلمة من حيث الفصاحة والبيان)، وموضوع علم اللغة (الكلمة من حيث المفهوم والمعنى)، وموضوع علم العروض (الكلمة من حيث وزنها الشعري). وهكذا، فإنَّ الحيثيات المتمايزة، جعلت مواضيع هذه العلوم متمايزة أيضاً، ممّا يثبت تمايز العلوم نفسها.
وأمّا إشكاله الثاني، فيجاب عنه بما قلناه سابقاً من أنَّ موضوعات المسائل هي عينها موضوع العلم؛ لأنَّ الموضوع في قولك: (الفاعل مرفوع) هو (الكلمة من حيث لحوق الإعراب والبناء بها)، وما الفاعلية إلا واسطة في ثبوت الرفع للكلمة، وهكذا في قولك: (المفعول به منصوب)، و(المضاف إليه مجرور)... فلم يختلف موضوع العلم عن موضوعات مسائله حتى يلزم ما ذكره في إشكاله.
وجواباً على عدوله من التمييز بالموضوع إلى التمييز بالغرض، نقول: إنَّ التمييز بين العلوم إذا أمكن بالموضوعات، فهو أولى من التمييز بالأغراض؛ لتقدّم الموضوع رتبة على غيره، فالتمييز بالموضوع تمييز بالذات، وهو مقدَّم على التمييز بالعرض؛ كالتمييز بالغرض.
ثمّ إنّه قد يشكل على جعل التمايز بالأغراض بأنَّ ذلك لا ضابطة له؛ إذ لو كان المراد من الغرض المترتب على العلم هو الغرض الشخصي، لتمّ ما ذكر؛ فمثلاً الغرض من علم النحو هو (صون اللسان عن الخطأ في المقال)، والغرض من علم المنطق هو (صون الفكر عن الخطأ في الاستنتاج)، وهكذا في بقيَّة العلوم، فإنَّها تتمايز بتمايز أغراضها الشخصيّة.
أمّا لو كان المراد من الغرض هو الغرض الكلي، فلا يتم ما ذكره؛ لأنَّنا نجد أنَّ (صون الإنسان عن الخطأ مطلقاً) غرض كلّي مترتب على علم النحو، وعلم المنطق، وعلم الصرف، ونحوها، فلا ينبغي حينئذٍ أن تتعدد هذه العلوم لوحدة موضوعها.