الدرس 1221 _كتاب الصوم 21
وأمَّا مَنْ ذهب إلى التَّحريم فقط، وعدم إيجابه قضاءً ولا كفَّارةً، فقدِ استدلّ له بجملة من الأدلَّة:
منها: أنَّ الأصل عدم مُفطِّريّة تعمُّد القيء.
وفيه: أنَّه لا معنى للرُّجوع إلى الأصل مع وجود الدَّليل، لاسيَّما أنَّ الرِّوايات مُستفيضةٌ.
ومنها: حَصْر المُفطِّر في صحيحة ابن مُسلم المتقدِّمة في غيره.
وفيه: أنَّ الحَصْر في صحيحة ابن مسلم إنَّما استُفيد من الإطلاق، وهذا الإطلاق مقيَّد بالرِّوايات المتقدِّمة.
ومنها: أنَّ الصَّوم هو الإمساك عمَّا يصل إلى الجوف لا عمَّا يخرج منه.
وفيه: أنَّ كون الصَّوم هو الإمساك عمَّا يدخل إلى الجوف اجتهادٌ في مقابل النَّصّ.
وحملُ النُّصوص على الحُرمة خلافُ صريحها، حيث نصَّت على القضاء.
أضف إلى ذلك: أنَّه لا يُوجد في الرِّوايات نهيٌ عن التّقيُّؤ حتَّى يُحمل على الحُرمة، بل الموجود فيها هو فساد الصَّوم، ووجوب القضاء عليه.
ومنها: صحيحة عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه (عليه السلام) «قَاْل: ثلاثةٌ لا يُفطِّرْنَ الصَّائم: القيءُ، والاحتلامُ، والحِجامةُ...»[1].
وفيه: أنَّها مطلقة، فتُقيَّد بغير صورة العمد، أي تُحمل على أنَّه سبقه القيء بغير اختياره؛ إذ لا إشكال عندهم في أنَّه لو سبقه بغير اختياره، فإنَّه لا يُفطِّر، ولا يُوجب القضاء.
والخُلاصة إلى هنا: أنَّه لا إشكال في أنَّ تعمُّد القيء مُوجبٌ للقضاء.
وأمَّا بالنِّسبة للكفَّارة، فسنتعرّض لها عند تعرُّض المصنِّف (رحمه الله) في ما سيأتي إن شاء الله تعالى .
* * *
من طُلُوع الفجر الثَّاني (1)
(1) المعروف بين الأعلام أنَّ وقت الإمساك في الصَّوم هو طُلُوع الفجر الثَّاني، وفي المدارك: «هذا قول علماء الإسلام كافَّةً، ويدلّ عليه قوله تعالى: « وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ ]البقرة: 187[، ويُستثنى من ذلك الجُماع، فيجب الإمساك عنه قبل طُلُوع الفجر إذا لم يتَّسع الزَّمان له وللاغتسال؛ لبطلان الصَّوم بتعمُّد البقاء على الجنابة...»[2].
وفي الجواهر تعليقاً على قول المحقِّق (رحمه الله): «وقت الإمساك طُلُوع الفجر الثَّاني» : «بلا خلاف بين علماء الإسلام، بل إجماعهم بقسمَيْه عليه...»[3].
أقول: تسالم الأعلام قديماً وحديثاً، وفي جميع الأعصار والأمصار، على أنَّ وقت الإمساك في الصَّوم هو طُلُوع الفجر الثَّاني، بل قد عرفت أنَّه قول علماء الإسلام كافَّة.
ولم يُخالف في ذلك إلاَّ الأعمش من العامَّة، حيث قال: «إنّما يجب الإمساك من طُلُوع الفجر الَّذي يملأ البيوت والطُّرق»[4]. وهو منفرد بهذا القول، وبُطلانه واضح.
وأمَّا كيفيَّة معرفة الفجر، فالمعروف بين الأعلام أنَّ الفجر الثَّاني هو البياض المنتشر في الأفق الَّذي هو كالقُبْطيّة(*) البيضاء، وكنهر سورى(**).
وأمَّا الفجر الأوَّل الكاذب، فهو البياض الحادث في الأفق المُتصاعد في السَّماء، الَّذي يُشبه ذنب السِّرحان أي الذِّئب وإنَّما شُبّه به لخُروجه مستدقّاً مُستطيلاً كذنب السِّرحان.
وقد ذكرنا هذه المسألة مع أدلَّتها بالتَّفصيل في كتاب الصَّلاة، فراجع[5]، فإنَّه مهمٌّ جدّاً.
* * *
إلى غروب الشَّمس (1)
(1) اِتَّفق الأعلام قاطبةً على أنَّ وقت الانتهاء أي وقت الإفطار هو غُروب الشَّمس، بل هناك تسالمٌ بين جميع المسلمين، وإنَّما الخلاف في ما يتحقَّق به الغُروب.
وقد ذكر المصنِّف (رحمه الله) في مبحث الصَّلاة أنَّ الغُروب يُعلم بذهاب الحُمرة المشرقيّة على الأقوى، لا باستتار القرص، وهو قول جماعة كثيرة من الأعلام.
وهذا هو الإنصاف عندنا. وقد ذكرنا أدلَّة الطَّرفَيْن بالتَّفصيل في مبحث الصَّلاة، فراجع[6]. كما أنَّه سيأتي من المصنِّف (رحمه الله) عند ذكر وقت الإفطار أنَّ الغُروب يُعلم بذهاب الحُمرة المشرقيّة، حيث قال: «ووقت الإفطار غيبوبة الشَّفق المشرقيّ إلى أن قال: ولا يكفي ستر القُرص على الأصحّ...»[7].
ثمَّ لا يخفى عليك: أنَّ ذهاب الحُمرة المشرقيّة عبارة عن ذهاب الحُمرة من طرف المشرق إلى أن تبلغ أعلى الرَّأس دائرة نصف النَّهار.
وأمَّا استتار القرص، فهو عبارة عن غيبوبته عن العين مع انتفاء الحائل بينهما.
هذا، وقد ذكر جماعة من الأعلام أنَّه يجب الإمساك من باب المقدِّمة العلميّة في جُزء من اللَّيل في كلٍّ من الطَّرفَيْن ليحصل العلم بالإمساك تمام النَّهار.
أقول: إنَّ الحاكم بوجوب المُقدِّمة العِلميَّة هو العقل بملاك دفع الضَّرر المحتمل أي الضَّرر الأُخرويّ، وهو العقاب فإذا وُجد ما يرفع الضَّرر المُحتمل من أمارة، أو أصل عمليّ من استصحاب أو براءة، انتفى حينئذٍ موضوع حُكم العقل.
وعليه، ففي مقامنا هذا إذا كان صائماً لا يجوز له الإفطار إلاَّ إذا تيقَّن بدخول اللَّيل، وإذا لم يتيقَّن بدخوله لاسيَّما مع استصحاب بقاء النَّهار فالعقل يحكم بوجوب الإمساك في جُزء من أوَّل اللَّيل من باب المُقدمة العلميّة، دَفْعاً للضَّرر المُحتمل؛ إذ لا رافع لهذا الضَّرر المُحتمل الأُخرويّ المُنجّز عليه.
نعم، هذا الكلام لا يتمّ بالنِّسبة للإمساك في جُزء من اللَّيل ليتيقّن بحصول الإمساك من أوَّل جُزء من الفجر؛ وذلك لأنَّ الضَّرر المحتمل الَّذي هو الملاك في حُكم العقل بوجوب المُقدِّمة العِلميّة مرفوعٌ بالاستصحاب، حيث إنَّه يستصحب بقاء اللَّيل، وعدم طُلُوع الفجر، فيجوز له تناول الطَّعام والشَّراب، حتَّى يتيقَّن بطُلُوع الفجر، فيمتنع حينئذٍ عن الأكل والشَّرب.
وبالجملة، فهناك مُؤمِّنٌ من العِقاب، وهو الاستصحاب، فلا موضوع لحكم العقل بالإمساك في جُزء من اللَّيل.
نعم، لو لم يجرِ الاستصحاب ارتفع المُؤمِّن حينئذٍ؛ وذلك كما لو علم إجمالاً أنَّه لو لم يُمسِك في جُزء من اللَّيل اعتماداً على الاستصحاب لأفطر في جُزء من النَّهار يقيناً، ولو في يوم واحد من مجموع الشَّهر، فهو يعلم بحصول الإفطار إمَّا في هذا اليوم أو الأيّام الآتية.
ووجه عدم جريان الاستصحاب: هو سُقوطه في أطراف العلم الإجماليّ.
ولكنَّ هذا كلّه مُتوقِّفٌ على حُصول العلم الإجماليّ بأنَّه لو لم يُمسك في جُزء من اللَّيل اعتماداً على الاستصحاب لأفطر في جُزء من النَّهار يقيناً، ولو في يوم واحد من أيام الشَّهر.
ولكن من أين يحصل له هذا العلم؟!
ومهما يكن، فالإنصاف: هو ما ذكرناه، والله العالم.
[1] الوسائل باب 29 من أبواب ما يُمسِك عنه الصَّائم ح8.
[2] المدارك: ج6، ص190.
[3] الجواهر: ج16، ص384.
[4] حكاه عنه في المنتهى: (ط. ج)، ج9، ص13.
(*) القُبْطيّة بضمّ، فسكون، جمع قُباطِيّ وقَباطِيّ وقُباط : ثوبٌ كتَّاني دقيقٌ أبيض، منسوبٌ إلى القُبط، يُصنع بمصر.
(**) نهر سورى، أو سورا أو سوراء: هو أكبر أفرع نهر الفرات في العراق، ومجراه ما بين قرية ذي الكفل وقرية القاسم بن الإمام الكاظم (عليه السلام)، وإلى قرية القاسم أقرب، وقد شُبّه بياض السَّماء عند طُلوُع الفجر ببياض نهر سورى.
[5] مسالك النفوس إلى مدارك الدُّروس، المجلد الأوَّل من كتاب الصَّلاة: ص186.
[6] مسالك النفوس إلى مدارك الدُّروس، المجلد الأوَّل من كتاب الصَّلاة: ص145.
[7] الدروس الشرعية: ج1، ص286.