الدرس 1139 _كتاب الخمس 19
قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: نعم، يجوز تأخيره احتياطاً للمكلَّف
قد عرفت أنَّه لا يُعتبر الحَوْل في شيء من الخُمُس.
نعم، المشهور بين الأعلام أنَّه يجوز تأخير خصوص ما يجب في الأرباح، وفي الجواهر: (بل لا أجد فيه خلافاً، بل الظَّاهر الإجماع عليه...)([1]).
أقول: لا إشكال في جواز التَّأخير.
وقدِ استُدلَّ للجواز بعدَّة أدلَّةٍ:
الأوَّل: التَّسالم بين الأعلام قديماً وحديثاً، كما أنَّ السِّيرة على ذلك، فإنَّ سيرة المتديّنين على إخراج الخُمُس آخر السَّنة، ولم يُنكَر عليهم ذلك، وهذا الدَّليل قطعيّ.
الثَّاني: الرِّوايات المتقدِّمة الدَّالّة على جواز التَّأخير:
منها: صحيحة عليّ بن مَهْزِيار الطَّويلة، حيث ورد فيها: (فَأَمَّا الْغَنَائِمُ وَالْفَوَائِدُ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِمْ فِي كُلِّ عَامٍ...)([2])، فإنَّ مقتضاها جواز التَّأخير إلى آخِر العامّ، أي عامِ الرِّبح.
ومنها: الاحتياط للمكتسب والإرفاق به؛ لاحتمال تجدُّد مؤن له لم يكن يتوقّعها لو أخرج الخُمُس حين حصول الرِّبح، وقبل انتهاء السَّنة.
وذكر المصنِّف (رحمه اﷲ) في البيان أنَّ الاحتياط للمستحقّ أيضاً؛ لاحتمال نقصان المؤونة، قال في البيان: (ولكن يجوز تأخيره إلى آخره احتياطاً له، وللمستحقّ؛ لجواز زيادة النَّفقة بسبب عارض أو نقصها...)([3]).
ثمَّ إنَّه قد يُشكل على جواز التَّأخير: بأنَّه كيف يجوز تأخير الخُمُس الَّذي هو مال الغير، وهو ثابت بمجرَّد ظهور الرِّبح، مع وجود المطلقات الدَّالّة على عدم حِلّ مال المسلم بغير إذنه، وهذا يقتضي عدم جواز التّصرُّف فيه، والاكتساب به؟!
ويقتضي أيضاً بطلان المعاملات المتعلّقة به، ولو مع الجهل بثبوته. واحتمال وجود المؤنة منفيّ بالأصل، مع أنَّه قد يُعلم بعدمها إذا كان الرِّبح كثيراً جدّاً، بحيث يقطع عادةً بعدم صرف الجميع.
والجواب على ذلك: هو ما تقدَّم من الأدلَّة الدّالَّة على جواز التَّأخير، فإنَّ الرِّوايات الدّالَّة على جواز التَّأخير يلزم منها عادةً جواز التّصرُّف فيه مطلقاً، مع أنَّ منعه من التّصرُّف في الرِّبح، والمعاملة معه معاملة المال المشترك، فيه حرج شديد.
ومن هنا لم يُنقل عن أحد من الأعلام القول بعدم جواز التّصرُّف فيه.
ثمَّ إنَّ ظاهر الأعلام وجوب الأداء بعد انتهاء السَّنة فوراً، وعدم جواز التَّأخير؛ لأنَّه حَبْسٌ للحقوق، وحَبْس الحقوق من الكبائر.
اللّهمَّ إلاَّ أن يكون الرِّبح ديناً في ذمَّة النَّاس، ولم يمكن استيفاؤه شرعاً؛ لأنَّه مؤجَّلٌ أو كان حالاًّ، وكان استيفاؤه متعذِّراً أو حرجيّاً، فيجوز حينئذٍ تأخير الأداء إلى زمان الاستيفاء، وتجب المبادرة حينئذٍ، والله العالم.
* * *
قال الشهيد الاول رحمه الله في الدروس: ولا يُعتبر الحَوْل في كلُّ تكسُّبٍ، بل يُبْتَدَأ الحَوْل من حين الشُّروع في التّكسُّب بأنواعه، فإذا تمّ خمّس ما فضل.
الأوَّل: في مبدأ الحَوْل الَّذي يكون الخُمُس بعد خروج مؤونته، ومؤونة عياله.
الثَّاني: هل يكون لكلِّ ربحٍ رأسُ سنةٍ يخصّه، أم يجعل لمجموع الأرباح رأس سنة واحد؟
أمَّا الأمر الأوَّل: فقد ذهب جماعة من الأعلام إلى أنّ مبدأ السَّنة الَّتي يكون الخُمُس بعد خروج مؤونتها هو حال الشُّروع في التّكسُّب، منهم المصنِّف هنا، وصاحب الحدائق، والشَّيخ الأنصاريّ (رحمهم اﷲ)، وغيرهم.
وبالمقابل، ذهب كثير من الأعلام إلى أنَّ مبدأ السَّنة ظهور الرِّبح، منهم الشَّهيد الثَّاني في المسالك والرَّوضة، وصاحب المدارك، والسّيِد أبو القاسم الخوئيّ (رحمهم اﷲ)، ومال إليه صاحب الجواهر (رحمه اﷲ)، وكذا غيرهم من الأعلام.
وهو مقتضى الإنصاف عندنا، وبعضهم عبّر بحصول الرِّبح.
والظَّاهر أنَّ مراد الأعلام بظهور الرِّبح هو حصوله، والاختلاف إنَّما هو في التَّعبير فقط.
وهناك قول ثالث لصاحب العروة (رحمه اﷲ)، وهو أنَّ مَنْ كان شغله التّكسُّب، فمبدأ السَّنة حال الشُّروع في الاكتساب، وأمَّا مَنْ لم يكن مكتسباً، وحصلت له فائدة اتِّفاقاً، فمبدأ السَّنة من حين حصول الفائدة.
هذه هي الأقوال في المسألة.
ولكنَّ الإنصاف: أنَّ محلَّ النِّزاع في المقام هو ما لو كان شغله التّكسُّب، وأمَّا مَنْ لم يكن مكتسباً، وحصلت له الفائدة، فلا إشكال في أنَّ مبدأ السَّنة هو حين حصولها.
إذا عرفت ذلك، فنقول: قدِ استَدلّ مَنْ ذهب إلى أنَّ مبدأ السَّنة الشُّروع في التّكسُّب: بأنَّ هذا هو المتعارف في عامِ الرِّبح الَّذي تُلحظ المؤنة بالنِّسبة إليه، فالزَّارع عام زراعته الَّتي تُؤخذ مؤنته من الزَّرع أوَّل الشُّروع في الزَّرع، وكذا عام التِّجارة والصِّناعة الَّذي يأخذ التَّاجر والصَّانع مؤنته منه، فإنَّه أوَّل زمان الشُّروع في التِّجارة والصِّناعة.
وفيه: أنَّه لم يرد في الرِّوايات لفظ (عامِ الرِّبح) حتَّى يُقال: هو الَّذي تُلحظ المؤنة بالنِّسبة إليه، بل قد عرفت سابقاً عند الكلام عن المؤنة أنَّه لم يرد في الرِّوايات لفظ (مؤنة السَّنة)، وإنَّما فهمنا مؤنة السَّنة ممَّا ذكرناه سابقاً، فراجع.
والصَّحيح: أنَّ مبدأ السَّنة هو ظهور الرِّبح الَّذي هو زمان تعلُّق الخُمُس؛ لأنَّ المتبادر عرفاً من إيجاب الخُمُس في ما اكتسبه الإنسان واستفاده، والَّذي هو فاضلٌ عن مؤنته، هو الَّذي تخرج منه المؤنة الفعليّة، أي ما يكون حاصلاً، وهو المعبَّر عنه بظهور الرِّبح.
وعليه، فمبدأ السَّنة ظهور الرِّبح، فيُعتبر فيه مؤنة السَّنة المستقبلة، وأمَّا المؤنة السَّابقة عليه من حين الأخذ في التّكسُّب أو الاشتغال بالزِّراعة، فإن عُدّت عرفاً من مقدِّمات التَّحصيل، أي من مؤنة التَّحصيل، استُثنيت من الرِّبح بلا إشكال؛ لاستثناء مؤنة التَّحصيل من مطلق الغنائم، ولا يختصّ ذلك بهذا النَّوع من الخُمُس.
وأمَّا إن لم تكن من مؤنة التَّحصيل، فلا وجه لاستثنائها بعد أن كان مبدأ السَّنة هو ظهور الرِّبح.
وقد يُستدلّ أيضاً على كون مبدأ السَّنة هو ظهور الرِّبح: بالإطلاق المقاميّ، فإنَّ عدم بيان مبدأ السَّنة في الرِّوايات، مع كون المتكلِّم في مقام البيان، يقتضي ذلك؛ لأنَّ تعيُّن زمان ظهور الرِّبح يصلح أن يكون قرينةً على تعيُّن المبدأ، وليس هناك ما يصلح لتعيُّنه سواه، فيتعيّن أن يكون الاعتماد عليه، واﷲ العالم.
([1]) الجواهر: ج16، ص79.
([2]) الوسائل باب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس ح5.
([3]) البيان: ص349.